مع انتهاء تنفيذ المرحلة الأولى من اتفاق وقف إطلاق النار في غزة الذي تم التوصل إليه بوساطة مصرية- قطرية- أمريكية، بدى جلياً أن رئيس الوزراء الإسرائيلي يماطل في الدخول في تنفيذ المرحلة الثانية؛ حيث عبر عن رغبته في مد العمل بالمرحلة الأولي لمدة جديدة يتم خلالها الاستمرار في وقف إطلاق النار مقابل إطلاق الفصائل الفلسطينية لسراح المزيد من المحتجزين لديهم. وقد وضع بنيامين نتانياهو، بالتنسيق مع المبعوث الأمريكي للسلام في المنطقة، إطاراً زمنياً لذلك يشمل ما تبقي من شهر رمضان المبارك بالإضافة إلى فترة احتفالات عيد الفصح اليهودي. في إسرائيل. وطوال فترة مناقشة هذه الاقتراح تمسكت حركة حماس بقاعدتين رئيسيتين: الأولي تتمثل في ضرورة الالتزام بنصوص الاتفاق الموقع من كافة الأطراف، بما يعنيه ذلك من ضرورة الدخول الفوري في مفاوضات المرحلة الثانية التي من شأنها أن تفضي إلى الوقف التام لإطلاق النار والانسحاب الكامل لآلة الحرب الإسرائيلية من القطاع فضلاً عن إعادة كافة المحتجزين، الأحياء منهم والأموات، وإطلاق سراح عدد من المعتقلين الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية وفقاً للقواعد التي سبق تطبيقها خلال علميات التبادل السابقة. أما القاعدة الثانية فتتمثل في الانفتاح على الخطة العربية الإسلامية لإعادة إعمار القطاع وتسوية القضية الفلسطينية.
أما على الصعيد الإسرائيلي، فقد كان من الواضح أن فترة المفاوضات المشار إليها واقحام تفاصيل ومقترحات جديدة فيها لم تهدف في الأساس إلى التوصل إلى نتائج سياسية ملموسة بقدر ما كانت تسعي لإتاحة الوقت الكافي لرئيس الوزراء لترتيب أموره على الساحة السياسية الداخلية بما يمكنه من مواصلة القتال في ظروف أفضل مما كان عليه الوضع في أعقاب عملية السابع من أكتوبر 2023. وفي هذا السياق يسعي هذا المقال إلى التركيز على عدد من النقاط الجوهرية التي يلزم أخذها بعين الاعتبار عند تحليل الوضع الحالي واستشراف المستقبل القريب.
أولاً- كانت اعتبارات السياسة الداخلية عاملاً حاسماً في اتجاه رئيس الوزراء الإسرائيلي الى العودة إلى القتال، بالرغم من معارضة عائلات الرهائن المحتجزين في القطاع وعدد لا بأس به من قادة الأحزاب والكتل داخل الكنيسيت الإسرائيلي. فرئيس الوزراء في حاجة ماسة إلى أصوات حزب "العظمة اليهودية" بقيادة بن غفير، في حين قدم الأخير استقالته في اليوم الأول للتوصل إلى وقف إطلاق النار لتسجيل اعتراضه على ذلك ووضع عدة شروط لعودته هي: العودة إلى القتال، تنفيذ خطة الرئيس ترامب، والوقف الكامل لدخول المساعدات الإنسانية للقطاع. وقد تزايدت حاجة نتنياهو لعودة حزب "العظمة اليهودية" لتمرير الميزانية في نهاية الشهر الحالي وإلا تعتبر الحكومة مستقيلة.
ثانياً- وفقاً للمصادر الإسرائيلية فإن استئناف الهجوم على القطاع في السابع عشر من مارس الجاري كان وليد خطة تم اعدادها منذ تولي رئيس الإركان الإسرائيلي الجديد منصبه، والذي أعلن أن عام 2025 سيكون عام حرب في غزة وإيران. ومما لا شك فيه أن هذه العملية تهدف بشكل رئيسي إلى تدمير ما تبقي من مظاهر الحياة في القطاع مما يجعل فكرة استمرار سكانه في البقاء خلال عملية إعادة الإعمار، على النحو الذي تضمنته خطة إعادة الإعمار العربية والإسلامية أمراً مستحيلاً، ومن ثم تصبح ما يُطلق عليه "الهجرة الطوعية" لسكان القطاع الخيار الوحيد المتاح والذي يحظى بتأييد كل من إسرائيل والولايات المتحدة. أما فيما يتعلق بالمحتجزين لدى الفصائل الفلسطينية فإن الاهتمام بإعادتهم بدى وأنه في المرتبة الثانية حيث أشارت بعض المصادر إلى أن أحدهم وقع قتيلاً وأصيب آخرين نتيجة للقصف الإسرائيلي خلال اليومين الماضيين.
ثالثاً- حظي استئناف إسرائيل للقتال في القطاع على تأييد الإدارة الأمريكية التي قادت بدورها عملية عسكرية مدمرة ضد الحوثين في اليمن في إطار ما أطلقت عليه تحرير الملاحة الدولية من التهديدات، وكذلك لإعاقة أي مسعي من قبل الحوثيون لإسناد أهالي القطاع عسكرياً. ومن ثم فإن الإطار الإقليمي الذي يحيط بالعملية العسكرية الإسرائيلية الجديدة يختلف تماماً عما كان عليه الحال من قبل، فلم يعد هناك إسناد من حزب الله في لبنان الذي تم الدفع بعناصره إلى وراء نهر الليطاني ودُمرت العديد من مخازن ومنصات إطلاق صواريخه، كما أن مواقع الحوثيين في اليمن تتعرض للتدمير الممنهج بما يحول دون استمرارية قيامها بإسناد الفصائل الفلسطينية في غزة، بالرغم من تمكنها حتى الآن من إطلاق صاروخين تم اعتراضهما.
رابعاً- هدف الهجوم الإسرائيلي الجديد إلى توجيه رسالة واضحة لحركة حماس، وغيرها من الفصائل، مفادها أن قواعد اللعبة قد تغيرت، في وقت لم تعد في مقدورها تهديد أمن إسرائيل كما كان عليه الحال من قبل أو المناورة سياسياً. وإذا كانت الحركة قد تمسكت بمواقفها في المفاوضات التي سبقت بدء العملية العسكرية الإسرائيلية استناداً إلى مبادئ التفاوض التقليدية وما يقع على عاتق الوسطاء من التزامات، فإن الوضع أصبح مختلفاً الآن فالتفاوض لن يستمر في الطريق التقليدي وإنما سيكون من الآن فصاعداً تحت النار بما يعنيه ذلك من ضيق هامش المناورة المتاح للحركة، في وقت تمكنت فيه الأجهزة الأمنية الإسرائيلية من الاستفادة من المراسم التي اقامتها الفصائل الفلسطينية لتسليم المحتجزين في الكشف عن بعض المناطق التي تتحصن فيها بقايا هذه الفصائل بما يعنيه ذلك من سهولة وسرعة في التنفيذ.
خامساً- على مستوى سكان القطاع فإن الأمر أضحي بمثابة الكابوس؛ حيث أعاد إلى أذهانهم صور المذابح وعمليات الإبادة التي تعرضوا لها على مدار خمسة عشر شهراً وارتاحوا منها لشهرين فقط. وقد تمثل المشهد الرئيسي في الحشود من النازحين بناء على تعليمات من الجيش الإسرائيلي، وضرورة الخضوع لأوامر الجيش الإسرائيلي الذي عاد لاحتلال معبر نتساريم ليفصل بين شمال القطاع وجنوبه. ويجرى كل ذلك في إطار عملية من التجويع، نتيجة لإيقاف إسرائيل دخول شاحنات المساعدات الإنسانية منذ الثاني من مارس 2025، وأزمة كهرباء لتوليد مياه صالحة للشرب، وعدم قدرة منظمة الأونروا على لعب الدور الحيوي الذي كانت تقوم به في تخفيف أعباء الحياة على الفلسطينيين وتقديم الحد الأدنى من المساعدات الغذائية والصحية اللازمة. وقد قدمت إسرائيل هذه الخطوات على أنها تهدف إلى "إغلاق عزة، وفتح أبواب الجحيم".
سادساً- تسعي إسرائيل إلى تحقيق أقصي قدر من الاستفادة من الوضع الكارثي في القطاع لتأليب سكانه على حركة حماس، وقد كان ذلك واضحاً في الكلمة المصورة التي وجهها وزير الدفاع الإسرائيلي لسكان غزة في التاسع عشر من الشهر الجاري حيث أوضح أن “الهجوم الذي شنه سلاح الجو الإسرائيلي لم يكن سوي الخطوة الأولى، أما التالي فسيكون أكثر صعوبة وستدفعون الثمن بالكامل". وأشار إلى أنه "إذا لم يتم إطلاق سراح جميع الرهائن الإسرائيليين ولم يتم طرد حماس من غزة فإن إسرائيل ستتحرك بقوات لم تعرفوها بعد". واختتم الوزير كلمته بالقول "خذوا بنصيحة الرئيس الأمريكي: أعيدوا الرهائن، وأقضوا على حماس، وستفتح أمامكم خيارات أخرى، بما في ذلك السفر إلى أماكن أخرى حول العالم لمن يرغب. أما البديل هو الدمار والخراب الكامل". وقد عاد الوزير الإسرائيلي ليصرح في الحادي والعشرين من مارس 2025 بـأنه: "كلما رفضت حركة حماس إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لديها، كلما زادت الأراضي التي سنستولي عليها وتُضم إلينا".
يتضح مما تقدم أن القواعد الجديدة للعبة التي فرضتها إسرائيل لا تتماشى مع مفهومي التسوية والتفاوض بالمعنى المتعارف عليه وإنما إلى فرض أمر واقع جديد يُقلل من الخيارات المتاحة أمام فصائل المقاومة في قطاع غزة ويُضخم من معاناة سكانه الأمر الذي قد يدفع الفصائل إلى القبول بعرض الاستسلام والخروج من القطاع – إذا ما كان هذا الخيار لا يزال مطروحاً- كما أن من شأن تلك القواعد بث الرعب في نفوس سكان القطاع، الأمر الذى تأمل معه إسرائيل أن يقودهم إما إلى التمرد على الفصائل أو الانخراط في برامج ما يُطلق عليه "الهجرة الطوعية" التابعة لوزارة الدفاع الإسرائيلية. ومما لا شك فيه أن تلك القواعد لا تتماشي من قريب أو بعيد مع خطط تحقيق السلام والاستقرار في المنطقة وإعادة الإعمار التي توافقت عليها الدول العربية والإسلامية وحظيت بتأييد دولي واسع، كما أنها تتعارض مع مبادئ القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني في وقت لا يسمح فيه الإطار الدولي بإعادة الأمور إلى نصابها. فإسرائيل لم تعر أي اهتمام للقواعد المتعارف عليها، بل أضجت تتعامل بشكل معلن مع كل من قطاع غزة والضفة الغربية من منطلق القوة الغاشمة لفرض ما تُطلق عليه "السلام عن طريق القوة". وفي هذا السياق يصبح التساؤل الرئيسي هو: ماذا يمكن أن يقوم به المجتمع الدولي للحفاظ على مبادئه وقيمة التي تبلورت مع مرور الوقت خاصة منذ تأسيس الأمم المتحدة؟ هل نحن على أعتاب مرحلة تشبه في ملامحها تلك التي سادت في فترة ما بين الحربين العالميتين؟