المازوخية المجتمعية ظاهرة نفسية واجتماعية تتجسد عندما يتبنى مجتمع بأكمله أو مجموعة كبيرة من الأفراد داخل مجتمع معين حالة من القبول الطوعي للمعاناة، والإذلال، أو القهر، سواء كان ذلك بفعل قوى داخلية (مثل التقاليد أو الأنظمة السائدة) أو قوى خارجية (كالاستعمار الثقافي أو الاقتصادي). في هذا السياق، يُنظر إلى الألم أو القمع على أنه جزءًا من هوية المجتمع وثقافته، وربما حتى وسيلة لتعزيز الانتماء الجماعي.
هذه الظاهرة تُميز المجتمعات التي مرت بتاريخ طويل من القمع، أو التي ترسخت فيها نظم فكرية وأيديولوجية تشرعن الخضوع والقبول بالظلم تحت مسميات مثل "التضحية"، أو "القدر"، أو "الولاء". في بعض الحالات، تصبح المعاناة الجماعية مكونًا أساسيًا للهوية الوطنية أو الدينية، بحيث يُعاد إنتاج الألم عبر الأجيال من خلال تربية الأفراد على تحمل القهر باعتباره ضرورة للحفاظ على استقرار المجتمع أو لضمان استمرارية ثقافته. يبرز هذا النمط في المجتمعات التي تتسامح مع الأنظمة الديكتاتورية، أو التي ترى في قمع الحريات الفردية نوعًا من الضبط الأخلاقي والمجتمعي، أو حتى في تلك التي تعيد إنتاج الأدوار الاجتماعية المجحفة، مثل تقبل العنف الأسري أو التمييز القائم على الجنس أو العرق.
إنّ ما يجعل المازوخية المجتمعية أكثر تعقيدًا هو أنها تتجلى في شكل ولاء شديد للقوى القامعة. وفي بعض الأحيان، يُدافع الضحايا أنفسهم عن من يقمعهم، ويرفضون أي محاولة للإصلاح أو التحرير باعتبارها تهديدًا لاستقرارهم. هذا ما يُعرف بمتلازمة ستوكهولم على مستوى المجتمعات، حيث يتماهى الأفراد مع جلادهم، ويعيدون إنتاج خطابه، بل ويساهمون في قمع أي محاولات للتمرد أو التغيير.
ومن الأمثلة البارزة للمازوخية المجتمعية هو المجتمعات التي تتقبل الاستبداد السياسي وتجد مبررات لاستمراره، حتى لو أدى ذلك إلى تدهور أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية. في هذه الحالة، يُبرر الناس القمع بأنه "ضرورة للحفاظ على الأمن". ينطبق ذلك أيضًا على بعض المجتمعات التي تتسامح مع الاستغلال الاقتصادي، حيث يقبل الأفراد بفكرة أن الفقر والتفاوت الطبقي أمر طبيعي أو حتى حتمي، بدلاً من المطالبة بتغيير النظام الذي يكرس هذه الحالة.
هناك بُعد آخر للمازوخية المجتمعية يظهر في الأنماط الثقافية التي تمجد الألم والتضحية كقيم أساسية. في بعض الثقافات، يُنظر إلى المعاناة كشرط للنبل أو للطهارة الأخلاقية، مما يؤدي إلى تبني عقلية ترى في الألم نوعًا من الفضيلة. هذه الفكرة يمكن أن تترسخ عبر الدين، الأدب، وحتى في الخطاب السياسي والإعلامي، حيث يُمجد الصبر على الظلم بدلاً من مقاومته.
هناك عدة عوامل تفسر بقاء المازوخية المجتمعية رغم وعي بعض الأفراد بمضارها. أولها، الخوف من التغيير يلعب دورًا رئيسيًا، حيث يفضل الناس التعايش مع معاناتهم الحالية بدلًا من المخاطرة بمجهول قد يكون أكثر إيلامًا. وهناك تأثير التعليم والتنشئة الاجتماعية، حيث يتم برمجة الأفراد منذ الصغر على تقبل القمع كجزء طبيعي من الحياة. كما يلعب الخطاب الإعلامي والسياسي دورًا في إعادة إنتاج هذه الأفكار، حيث يتم تصوير أي محاولة للتحرر على أنها تمرد غير مشروع أو تهديد للاستقرار.
إنّ المازوخية المجتمعية ليست قدرًا محتمًا، ويمكن كسر هذا النمط من خلال رفع الوعي الجماعي بأضرار القبول الأعمى بالقهر. التعليم هو المفتاح، حيث يمكن توجيه المناهج التربوية والإعلام نحو تعزيز ثقافة الحرية، والنقد، والقدرة على المطالبة بالحقوق دون خوف. كما أن تشجيع الأفراد على التفكير النقدي بدلاً من تقبل الواقع كما هو يساهم في خلق مجتمع أكثر قدرة على مواجهة الظلم بدلاً من التأقلم معه.
وبالمجمل فإن المازوخية المجتمعية هي حالة نفسية جماعية تنشأ من الخوف والتعود على القمع، لكنها ليست حالة دائمة أو غير قابلة للتغيير. تحتاج المجتمعات إلى لحظة وعي تدفعها لإعادة تقييم ما إذا كان الألم الذي تعيشه هو قدر محتوم، أم مجرد سجن فكري يمكن التحرر منه. وعندما يحدث هذا الوعي، يمكن أن يتحول المجتمع من كيان مستسلم إلى قوة تسعى نحو العدالة والكرامة الإنسانية.
العهد المازوخي الغامض هو ظاهرة نفسية واجتماعية تعكس علاقة غير متكافئة بين طرفين، حيث يكون أحدهما خاضعًا للآخر بطريقة تبدو غير منطقية، سواء كان ذلك في سياق فردي، أو اجتماعي، أو سياسي. هذه العلاقة تتسم بالاستسلام الإرادي للألم أو الإذلال، بدافع المتعة كما هو الحال في المازوخية التقليدية، وأحيانًا بسبب الشعور بالذنب، والحاجة إلى القبول، أو الرغبة في تجنب صراع داخلي أكبر. إنه عهد غير منطوق، لكنه مع ذلك مُرسَّخ في البنية النفسية والسلوكيات اليومية للأفراد والمجتمعات.
المازوخية، كظاهرة نفسية، تتجلى في حالات عديدة حيث يختار الأفراد الخضوع لمعاناة لا تبدو مبررة من منظور العقل والمنطق. لكن حين يتمدد هذا الميل ليصبح جزءًا من عقد غير مرئي بين الفرد ومصدر سلطته، سواء كان هذا المصدر شخصًا، أو مؤسسة، أو حتى فكرة مجردة، فإنه يصبح أكثر تعقيدًا. العهد المازوخي الغامض نزوع شخصي إلى تقبل الألم، وهو قبول غير واعٍ لنمط من السيطرة حيث يشعر الفرد بأنه غير قادر على الانفصال عن الجهة التي تفرض عليه المعاناة، حتى لو كانت هذه المعاناة تدمره نفسيًا أو اجتماعيًا.
هناك الكثير من الأسباب التي قد تدفع شخصًا أو جماعة إلى الدخول في هذا النوع من العهد النفسي غير المرئي. في كثير من الحالات، يلعب الخوف دورًا محوريًا، حيث يجد الشخص نفسه عالقًا بين التمرد الذي قد يقوده إلى المجهول، والاستسلام الذي يمنحه نوعًا من الاستقرار المزيف. الشعور بالذنب قد يكون أيضًا عاملاً قويًا، إذ أن بعض الأفراد الذين يشعرون بأنهم مدينون بشكل أو بآخر لمصدر سلطتهم قد يقبلون بالمعاناة كطريقة للتكفير عن ذنب غير واضح المعالم. في بعض المجتمعات، يتم تربية الأفراد على أن الولاء المطلق حتى في ظل الظلم هو فضيلة، مما يؤدي إلى تطبيع الخضوع كوسيلة للحياة.
وما يجعل العهد المازوخي غامضًا أنه يتغلغل في العقل والسلوك حتى يصبح جزءًا من الهوية النفسية. إنه ليس اتفاقًا مكتوبًا، لكنه موجود في لغة الجسد، في ردود الأفعال، في الصمت أمام الإهانة، وفي الخضوع الذي يتكرر يومًا بعد يوم حتى يبدو أمرًا طبيعيًا. يمكن ملاحظة هذا العهد في المجتمعات التي تعاني من تاريخ طويل من القمع، حيث يصبح قبول القهر سلوكًا متوارثًا، لا لأنه مطلوب بشكل صريح، ولكن لأنه أصبح جزءًا من الثقافة السائدة.