أتردد حدّ الفقر اللغوي، والبلاغي حين أبدأ بالكتابة عن أمي، ليس قصورا باللغة إنما قصور في قدرتي على الكتابة عن شخصية لم أر لها مثيلا، وحتما لن أرى، قدّمت وتقدّم، وأدعو الله أنها ستقدّم، فمعنى «الكثير» عند أمي غير موجود، فكلما قدّمت لنا «الكثير» تقول لم أقدم شيئا، فلا سقف لعطائها، هي ككل الأمهات لكنها بنظري وبقلبي وبروحي ليست كأحد.
تقف أمي إلى جانبنا أنا وشقيقاتي الثلاث، معينا وسندا، وناصحة، وخبيرة بكل ما يعنينا، ومرشدة، تقف كما ظلنا لا تفارقنا فما احتجنا شيئا حتى شعرت به قبل أن نطلبه، وكأنها تسكن أفكارنا، قريبة من فرحنا وحزننا ومن حاجاتنا، تعرفها قبل أن تخرج من حناجرنا على صيغة قول أو فكرة، نجد عندها دوما جوابا على كل أسئلتنا، وتلبية لكل حاجاتنا، أعلم ككل الأمهات لكني أراها بقلبي وروحي ليست كأحد.
لا تجرؤ علينا رياح الخوف في ظلها، ولا يجرؤ علينا شبح القلق ونحن نتكئ عليها، ولا تقوى علينا أزمات أيامنا وهي سندنا، هي أمي تعبت وعاشت فقط لنا أنا وشقيقاتي، ووالدي رحمه الله، فكانت لأسرتها لم تعش يوما لها، لم نشعر يوما أنها تفكّر بنفسها إلاّ مؤخرا بعدما بدأت أمراض كبر السن تغزو جسدها، باتت تفكّر في نفسها حتى لا ننشغل بها، فحتى في هذا الجانب فكّرت بنا قبل نفسها، فجملتها الثابتة اليوم «أهتم بصحتي حتى لا أسبب لكن التعب، وأن أشغلكن بي»، ففي اهتمامها بصحتها سببه نحن، حماك الله أمي وكل الأمهات، ففي وجودكن نعمة حفظها الله.
الحادي والعشرون من آذار، عيد الأم، يوم مختلف بكل تفاصيله، شمسه مختلفة، ورائحته بعطر نادر، وتفاصيله وردية، يوم تغيب عن ساعاته كل المشاعر ليحضر الحب، الحب لمن وهبت حياتنا لنا، يوم نحتاجه كرمزية للاحتفال بأمهاتنا، مع يقيني أن كل الأيام لهن، وكل الأيام أعياد بهن ولهن، رمز لاحتفال، لنقول شكرا بكل الحبّ لأمهاتنا ، شكرا لكل الأمهات لما قدمتن وما زلتن، شكرا لأمي التي تمسك يدي منذ طفولتي حتى لا أقع صغيرة، ولأصل لدرب الصواب كبيرة.
أمي، عشت لتربي وتبني أربع فتيات، أنا وشقيقاتي الثلاث، عشت ظلا لوالدي رحمه الله وسندا في مرضه، لنحيا حياة لم نشعر بها يوما أن شيئا ينقصنا، إنما قدمتِ لنا كمالها بكل ما أوتيت من حبّ وعطاء، مختلفة يا نبض قلبي.. لا تشبهين سوى ذاتك وقلبك الذي يشعر بي وبشقيقاتي دون أن نشكو أو نتحدث بكلمة واحدة، لا يمكن أن أراك يا سيدة كوني وحياتي وسيدة وجودي سوى أنك مختلفة حتى وإن بالغت بوصفي.
كما كل عام، نردد ذات الآهات خلال شهر (3) هذا الشهر الذي يعلو به صوت وجعك على والدي رحمه الله، فهو الشهر الذي رحل به «محسن حياتنا» والدي رحمه الله، ورحلت به سندك وبيت سرّك عمتو «هالة فرحنا» الله يرحمها، شهر انتزع مفاصل الفرح من حياتنا فقد كان قاسيا أكثر من كل توقعاتنا، لكن نستأذنك أمي أن نعيش رمزية هذا اليوم، نبتكر بحبك وحنان ونعمة حضورك في حياتنا فرحا مختلفا، وحياة نقيّة خالية من أي شوائب وتشوهات، نبتكر سعادة أنت نبضها، نبتكر قوّة وصلابة لمواجهة تعب الحياة وأوجاع الأيام التي لا نملك من أسبابها شيئا، ففي وجودك أمي نبقى ثابتين، يوم نبتكر به لغة تحكي عشقنا لكِ.
شكرا «ماما» لبيت مثالي عشنا به بوجود والد لا يشبه في عظمته سوى نفسه رحمه الله، ووجودك أطال الله في عمرك، لنحيا بسلام وتصالح مع واقعنا وأنفسنا، ماما كل عام وأنت الحياة في حياتي أنا و»وناديا، ناهدة، وسماح»، وأحفادك «محسن، أسامة، أحمد، وزهير وسما» ومن تحبين مناداتهما بابنيك «درويش وهيثم»، أطال الله بعمرك يا نور العين ونبض القلب.
كل عام وأمي وأمهات الدنيا بألف خير.
الدستور