في حضرة الكرامة .. الأم أولًا
د. ميسون تليلان السليم
20-03-2025 02:48 AM
يزهر آذار بمناسباته التي لا تمرّ كغيرها، ففيه يتفتح المعنى وتتكشف أدوار الإنسان في أجمل صورها. من يوم المرأة إلى يوم الأم، إلى ذكرى معركة الكرامة، إلى عيد المعلم، ومن اليوم العالمي للقضاء على التمييز العنصري إلى كل لحظة يُصان فيها الحق، يجمع هذا الشهر رموزًا مختلفة لمضمون واحد: كرامة الإنسان حين يعطي، حين يعلّم، حين يحمي، وحين يُنصف.
وفي حضرة الكرامة، لا بد أن أبدأ ممن زرعت فيّ معناها، من امرأة علّمت بالفعل وربّت بالتعب وتركَت أثرًا لا يُنسى... والدتي، المرحومة آمنة العمري – أم أسامة تليلان – رائدة العمل التطوعي في محافظة المفرق، التي كانت تهمس بفخر الأمهات الكبار: "أولادي كلهم دكاترة، وأصغر وحدة مهندسة." لم تكن تتباهى، بل كانت ترى في نجاحهم ثمرة تعبها، وتعلم أن الأثر الحقيقي يُحفر في القلوب لا في الكلمات. فهي لم تكن أمًّا لنا فقط بل أمًّا للكرامة، وأتمنى أن نكون امتدادًا يليق بتعبها.
وفي آذار، لا يُستحضر الفخر بالأمهات فقط، بل يُستعاد حضورهن في لحظات الوطن الفارقة. معركة الكرامة لم تكن انتصارًا عسكريًا فحسب، بل لحظة تجلّت فيها معاني الصبر والعطاء في البيوت كما في الميدان. ومن بين تلك القصص، تبرز سيدة من نساء الكرامة، أم ناصر، زوجة البطل اللواء عطاالله غاصب السرحان، التي روت ابنتها الكبرى أنها كانت شاهدة طفلة على مشهدٍ لا يُنسى، حين تقطعت السبل بوحدة عسكرية قريبة من منزلهم ولم يصلهم التموين، وكان ذلك في خضم الحرب، فحضر الجنود إلى منزل عطاالله غاصب يطلبون الطعام. فما كان من أم ناصر إلا أن ملأت ممّا توفر من طعام، ثم ملأت المعجن بالطحين، عجنته بيديها، وخبزته على الصاج، وأرسلت كمية الخبز مع الجنود إلى بقية الوحدة التي تنتظر الزاد.
لم تنتظر طلبًا، ولم تفكر أن ما تقوم به سيتحدث عنه أحد، لكن هذه العفوية كانت تربية حقيقية، ودرسًا حيًّا لأولادها في معنى الواجب والكرامة. أفعالها ربت أجيال، ولم تكن الوحيدة، بل مثلها كثير من الأردنيات اللواتي يُشار إليهن بالبنان، لأنهن ربّين أبناءً ما عرفوا إلا الانتماء.
ويستحضر الناس في مثل هذه المناسبات نساءً أردنياتٍ نذرن أنفسهن للكرامة والعمل بصمت، مثل خضرة المجالي، أخت البطل حابس المجالي، التي كانت تردد بفخر: "أنا أخت حابس"، وقد كان هو نفسه يقول بفخر واعتزاز: "أنا أخو خضرة"، في دلالة على مكانتها في قلبه ومجتمعه، فكانت في حضورها رمزًا للقوة والحكمة، لا تقل أثرًا عن فعل السلاح. كما لا ننسى أمهات الشهداء اللواتي ودعن أبناءهن بثبات،
وقلن: "هذولا فداء للوطن"، ونساء من البوادي والأرياف والمدن، لم يُعرفن بأسمائهن، لكن عُرفن بأفعالهن، لأنهن ربين على القيم، وكان همّهن أن يخرجن رجالًا يحملون الوطن في قلوبهم.
وفي يوم المرأة وعيد الأم ويوم المعلم، ندرك أن الكرامة تُصنع يوميًا بيد أم، بعقل معلم، وبقلب امرأة لا تعرف التردد حين يتعلق الأمر بخدمة الناس والوطن. أولئك النسوة لم ينتظرن الضوء ليسلطن عليه، بل مشين بنورهن، فكان فعلهن أكبر من أي احتفاء.
في حضرة الكرامة، الأم أولًا. لأن فيها يبدأ كل شيء، ومنها تنطلق كل قوة. وسلام على الأمهات في يومهن، وعلى النساء في حضورهن، وعلى من خبزن للوطن فعلًا صادقًا، وعلى كل من ربت فأنبتت رجالًا يعرفون المعنى الحقيقي للكرامة.