حين يصبح الفقد وطنًا للذاكرة
المهندس عامر البشير
19-03-2025 10:54 PM
في الطفولة، نفقد الأشياء بطرق لا ندرك أبعادها أو معانيها إلا حين نكبر، قد يكون الفقد لعبةً مفضلة، منزلًا يحمل عبق الأمان، أو صوتًا يملأ الفراغ بالطمأنينة، لكن أن تفقد أحد والديك في عمر مبكر، فذلك وجع لا تمحوه الأيام، ولا تهوّنه المسافات، ولا تداويه التجارب، إنه شرخ في القلب، غياب يشبه سقوط جزء من الروح في فجوة الزمن، انكسار لا جبر له، حيث لا رجوع ولا تعويض.
كبرتُ وأنا أحمل هذا الغياب كظلٍ لا يفارقني، لم يكن فقد الأب مجرد حدث عابر، بل تجربة أعادت تشكيل وعيي بالحياة، قلةٌ قليلةٌ من أقراني مرّوا بنفس التجربة وعايشوا هذا الألم، وكأن القدر جمعنا في تراجيديا مشتركة، بلغة لا يفهمها إلا من ذاق مرارة الفقد، لم يكن حديثنا عن الذكريات يشبه حديث الآخرين، ولم يكن حزننا مجرد نحيب، بل تأملًا في الفراغ الذي تركه الغائبون. أدركنا مبكرًا أن الحياة تُسرق منا بلا إنذار، وأن الأماكن تفقد معانيها حين يغيب من منحها هذا المعنى.
حين لا تشبه الأماكن أرواحنا
في إحدى السنوات، وجدتُ نفسي على شواطئ دولة خارج الوطن، بين زرقة البحر اللامحدودة وشمس الذهب المتوهجة، محاطًا بجمالٍ يوحي بالسعادة المفترضة، ومع ذلك، شعرتُ بشيء ناقص، فراغ لا تملؤه المناظر الخلابة، كان الجمال هناك باردًا، منفصلًا عن جذور الروح، لا يحمل ذاكرة عميقة تجعل المكان وطنًا، أدركتُ أن الغياب لا يقتصر على الأشخاص، بل يمتد إلى الأماكن التي لم تعد تشبهنا.
وعلى النقيض، حين كنت اقف أمام قبر والدي، كنت أجد دفئًا لم أشعر به على أي شاطئ، كان المكان بسيطًا، لكنه مكتظ بالمعاني، مشبعٌ بالذكريات التي لا تحتاج إلى صورٍ تذكارية أو بطاقات بريدية، هناك، كنتُ أعرف تمامًا أين أقف، ولماذا أقف، لم أحتج إلى كلمات، فالحديث كان صامتًا، عميقًا، امتد عبر الزمن، كانت زيارة القبر رحلة في الذاكرة، بينما كان السفر إلى البحر مجرد انتقال جغرافي.
صفعات الحياة وصناعة الوعي
في وطني، الإنسان مرشّح لأن يتلقى "صفعة" من الحياة، صدمة غير متوقعة توقظ فيه وعيًا لم يكن يملكه، ليست بالضرورة صفعة جسدية، بل موقف يهز كيانه، فقدان يعيد تشكيله، أو خيبة تجعله يعيد تعريف معنى الأمان، نكبر على وقع هذه الصفعات، فهي ليست مجرد لحظات عابرة، بل محطات تعيد تشكيل وعينا، تمامًا كما فعل الفقد في الطفولة.
حين فقدت والدي، أدركت أن الأمان فكرة متحركة، لا ترتبط بالأماكن بل بمن يسكنها، لا تُختصر في الجدران بل في القلوب التي تحيط بنا، وفي وطني، تعلمتُ الدرس ذاته، فالأحداث القاسية ليست مجرد مواقف، بل صفعات توقظنا، تفتح أعيننا على هشاشة ما كنا نظنه ثابتًا، وتجبرنا على التعايش مع الفراغات التي يخلفها الغياب، سواء كان غياب الأب، أو غياب العدالة، أو غياب الأمل في لحظات الانكسار،
كما لم أجد عزائي في البحر رغم اتساعه، كذلك لم أجد الأمان في شعارات وُعدنا بها ولم تتحقق. لكنني وجدت الحقيقة في الفراغ ذاته، في قبول أن بعض الغيابات لا تُعوّض، وبعض الجراح لا تلتئم، بل تتحول إلى ندوب نحملها، لا كعلامات ضعف، بل كدليل على أننا صمدنا رغم كل شيء.
الفقدان والبحث عن المعنى
الحياة نادرًا ما تقدم إجابات، بل تترك لنا تساؤلات مفتوحة، وتمنحنا ندوبًا علينا أن نتعلم كيف نحملها دون أن تثقل أرواحنا. لكن الحقيقة التي لا أجادل فيها أن فقدان الأب مبكرًا ليس مجرد غياب، بل زلزال يترك خلفه فراغًا لا يملؤه شيء، قد تكون الأم جبلًا من الصبر، قلبًا يحتضن، ويدًا تمسح أثر الانكسار، لكنها لا تستطيع أن تكون بديلًا تامًا عن ذلك الجدار الأول الذي كان يفترض أن يسند الطفل في خطواته الأولى نحو العالم.
يكبر الطفل الذي فقد والده وهو يحمل أسئلة بلا إجابات، يبحث عن ملامحه في مرايا العمر، يتساءل كيف كانت ستبدو حياته لو لم يأخذه الغياب مبكرًا، يمضي في الحياة بشجاعةٍ ناقصة، بأمانٍ مثقوب، بحنينٍ يتسلل في اللحظات غير المتوقعة، حين يرى أبًا يمسك بيد طفله، أو يسمع ضحكة رجل يداعب أبناءه.
وفي المجتمعات التي ترى في الحزن ضعفًا، يكبر هذا الطفل محاصرًا بالصمت، مطالبًا بأن يكون قويًا، بأن يتجاوز الفقدان وكأنه محطة عابرة، أن يمضي وكأن شيئًا لم يكن. لكنه لا ينسى. بل يحمل داخله جرحًا خفيًا، ندوبًا لا تلتئم، لكنها تصبح جزءًا من تكوينه، من طريقته في فهم العالم، من رؤيته للحياة والمستقبل، هذه الندوب تظهر في اللحظات الفارقة، في المناسبات التي كان يفترض أن يكون الأب فيها حاضرًا، في الأوقات التي يحتاج فيها إلى توجيه لم يجده، في الأيام التي تمنّى لو كان هناك صوت يقول له: "أنا هنا، لا تخف، أنا سندك."
بين الفقد والوطن
الحديث عن الفقدان ليس ضعفًا، بل محاولة لفهمه، للتصالح معه، وقبول الواقع، حتى لو كان مريرًا، لمنحه مكانًا في الذاكرة دون أن يمنعنا من المضي قدمًا، من فقدوا آباءهم في طفولتهم لا يبحثون عن عزاء، بل عن اعتراف بأن الغياب كان كبيرًا، وأن الفراغ الذي تركه الآباء لم يكن شيئًا يمكن تجاوزه بسهولة.
قبل وقت ليس ببعيد، التحقتُ بورشة كارما يوغا لاستكشاف أعماق النفس وما تخفيه من مكنونات دفينة، وللغوص في آثار تروما الفقد التي ترسّبت في اللاوعي العميق، كما الجبل الجليدي الذي لا يظهر منه سوى القليل، كانت هذه الرحلة بحثًا في تأثير هذه التجارب على الوجود، وسعيًا نحو التصالح مع الذات، وفهمًا أعمق للأحداث التي تتجلى في حياتنا.
في النهاية، ليست كل الرحلات متشابهة. هناك رحلات تفتح العيون على الجمال، وهناك رحلات تفتح القلوب على الحقيقة، وبين البحر الذي فقد ذاكرته، والمقبرة التي امتلأت بالحياة، تعلمتُ أن الذكريات أقوى من الأمواج، وأن الغائبين، رغم الرحيل، يظلون معنا في تفاصيل الحياة، في الحنين الذي لا ينطفئ، وفي الأماكن التي، مهما بدت بسيطة، تبقى أوطانًا للروح.
هل الفقد تجربة شخصية فقط، أم أنه جزء من هوية جماعية نتشاركها دون أن ندرك؟ وكيف يمكن لنا أن نحول الفقدان إلى قوة تمنعنا من فقدان ما تبقى؟
وأخيراً قد نكون فقدنا أبًا، هذا قدر خارج عن إرادتنا، لكن بالتأكيد، لا نريد أن نفقد وطنًا
لروحٍ غرست فينا معاني الوفاء والانتماء وبقيت نبضًا في الذاكرة، لاسمٍ يحمل في طياته الحكايات والأثر، للدكتور محمد عبد الرحمن البشير، دعاءٌ يمتد بين الأرض والسماء، ورحمةٌ نرجوها بلا حدود.