إنّها صرخة غضب، صرخة روحٍ أنهكها التكرار والتخاذل. هي اختزالٌ لحالةٍ مستمرة من القهر، للخذلان المتكرر، للدم الذي يراق وكأنه الماء (الدّاشر)، للوجوه التي تغيب بينما يبقى الاحتلال وجهًا ثابتًا، يبتسم كلما سقطت قنبلة فوق رأس طفل.
غزة ليست مجرد خبر عابر، وليست مجرد عنوان مأساوي يتكرر في نشرات الأخبار، إنها اختصارٌ للعجز الإنساني، وانهيارٌ لمفاهيم العدل والضمير.
نتنياهو، ومن سيأتي بعده، لا فرق. الأسماء تتغير لكن الجريمة تبقى هي ذاتها، والداعمون ذاتهم، والمتواطئون ذاتهم. أليس غريبًا كيف تتحرك الدول الكبرى بكل قواها إذا ما هددت مصالحها، لكنها تلتزم الصمت عندما يكون الدم فلسطينيًا؟ أليس معيبًا أن يُطالب الشعب الذي يقاوم الاحتلال بأن يكون مسالمًا، بينما يُسمح للمحتل أن يكون همجيًا بغطاء الشرعية الدولية؟.
أما عن الأمة، عن هؤلاء المليارين، فإنها تتسول، تتسول الشفقة، تتسول القرارات، تتسول الضغط الدولي، تتسول حتى الإدانة التي لا تسمن ولا تغني من جوع. أمةٌ فقدت قدرتها على الفعل، لكنها لم تفقد قدرتها على الصراخ والاستنكار والبيانات التي تنسى مع أول ضربة جوية جديدة.
لكن السؤال الذي يجب أن نسأله لأنفسنا: إلى متى سنبقى مجرد متفرجين على ذبحنا؟ هل ننتظر أن يُغير العالم رأيه؟ هل نعتقد أن الضمير العالمي سيستيقظ فجأة؟
لا، لن يستيقظ الضمير العالمي، لأنه لم يكن نائمًا أصلاً، بل كان دائمًا في صف الجلاد، يراقب ويبتسم ويبرر.
في غزة، لا تسقط القنابل وحدها، بل تسقط معها كل الشعارات الزائفة عن الإنسانية والعدالة وحقوق الإنسان. هناك، لا تُقتل الأجساد فقط، بل يُقتل معها الضمير العالمي، كلّ يوم، ألف مرة.
غزة ليست مدينةٍ محاصرة، لكنها عنوانٌ دائمٌ للخذلان.. في كل مرة يشتد العدوان، تشتعل الشاشات، تمتلئ الشوارع بالغضب، تُرفع الشعارات، ثم.. يعود الجميع إلى حياته الطبيعية وكأن شيئًا لم يكن. وحدهم أهل غزة لا يعرفون العودة إلى الحياة الطبيعية، لأن حياتهم لم تكن يومًا طبيعية. في كل يومٍ جديد، يبدأ الأطفال يومهم ليس بالذهاب إلى المدارس، وإنما بالبحث عن مأوى يقيهم من القصف القادم، وربما ينتهي اليوم دون أن يجدوا فرصةً للنجاة.
إبادة على مرأى من العالم، فما يحدث في غزة ليس حربًا، فالحرب تكون بين جيشين، بينما هنا قوةٌ نووية مدججة بأحدث الأسلحة تواجه شعبًا محاصرًا، محرومًا حتى من حق الهروب. ما يحدث هو مجزرةٌ علنية، إبادةٌ تُبَثُّ على الهواء مباشرةً، بينما يجلس العالم متفرجًا. يستمعون لصراخ الأطفال تحت الأنقاض، يشاهدون صور الجثث المتناثرة، ثم يتجادلون: هل ما يحدث جريمة حرب أم مجرد دفاعٍ عن النفس؟!.
أي دفاع هذا الذي يجعل قصف المستشفيات والمدارس والمساجد عملًا مشروعًا؟ أي قانون يجيز قتل العائلات كاملةً في لحظة واحدة؟ أي منطق هذا الذي يعتبر تدمير البنية التحتية، وقتل الأطباء والمسعفين، وإحراق الأحياء السكنية عملاً مشروعًا؟ لا، ليست حربًا، بل هي عقيدة احتلالية قائمة على الإبادة والتطهير العرقي، هدفها ليس الأمن، بل المحو.. محو الإنسان والتاريخ والذاكرة.
والغرب.. والكيل بمكيال المصالح؛ الغرب الذي يُنَصِّبُ نفسه حارسًا على الديمقراطية وحقوق الإنسان يقف اليوم مكشوف الوجه، بلا قناع. يدين روسيا عندما تغزو، ويدعم الاحتلال عندما يقصف. يرسل المساعدات إلى أوكرانيا بالمليارات، ويمنع حتى الماء عن غزة. يتحدثون عن القانون الدولي، ثم يغضّون الطرف عن جرائم الاحتلال الواضحة. يتباكون على الضحايا في أي مكان، إلا إذا كانوا فلسطينيين.
أما أمريكا، فهي الراعي الرسمي لهذه المذابح، تقف بجانب الاحتلال بوجه مكشوف، تزوده بالسلاح، تحميه في مجلس الأمن، ثم تخرج ببيانات باردة تتحدث عن حق "إسرائيل" في الدفاع عن نفسها. الدفاع عن ماذا؟ عن دمارها الذي صنعته بيديها؟ عن الاحتلال الذي هو جريمةٌ أصلاً؟ عن صواريخها التي تقتل الأبرياء؟.
أما المنظمات الدولية.. فصمتٌ يساوي التواطؤ، أما الأمم المتحدة ومنظماتها، فهي العار بعينه. تصدر بيانات تنديد، تعلن عن تحقيقات، تنشر أرقام القتلى، ثم تُغلق الملفات كما لو أن المذبحة لم تحدث. هي ذاتها المنظمات التي تتحرك سريعًا إن مست المصالح الغربية، لكنها تتحول إلى آلة بيروقراطية بطيئة كلما كان الضحايا فلسطينيين. الأمم المتحدة، مجلس الأمن، المحكمة الجنائية الدولية، كلها أسماء جوفاء، عناوين لكتبٍ لم تُكتب يومًا.
لكن غزة لا تموت، رغم كل شيء، غزة لا تموت. ربما تسقط الأبنية، تحترق الشوارع، تتهدم المدارس، لكن غزة تبقى، بكرامتها، بثباتها، بصمودها الذي لا يفهمه من اعتادوا العيش تحت الأوامر. في غزة، لا يُرفع علم الاستسلام، ولا تُنكس الرايات. في غزة، كل طفل يولد هو شهادةٌ على فشل الاحتلال في كسر هذا الشعب. وكل شهيد يسقط، هو نداءٌ آخر بأن هذه الأرض لا تقبل الغرباء، مهما حاولوا.
العالم بلا ضمير.. لكننا لن ننسى، فالعالم قد ينسى، لكنه لن يغير الحقيقة. القتلة لن يصبحوا أبرياء مهما امتلكوا من قوة إعلامية، والدفاع عن النفس لن يصبح إرهابًا مهما حاولوا. سيكتب التاريخ، وإن لم يكتب اليوم، فسيكتبه غدًا. ربما لن ينصفنا العالم الآن، لكنه لن يستطيع إنكار الجريمة إلى الأبد. وكما سقطت أنظمة استعمارية من قبل، سيسقط هذا الاحتلال، حتى لو ظن أن قوته أبدية.
غزة جرحٌ مفتوح في وجه هذا العالم المنافق، وصوتٌ يصرخ ليقول: نحن هنا، نحن أحياء، نحن لا ننهزم.
غزة مرة أخرى. وكأن الدم فيها يجري مجرى الماء، وكأن أجساد الأطفال هناك مجرد أرقام عابرة في نشرات الأخبار، وكأن القصف والدمار والمجازر طقس موسمي تعوَّد عليه العالم حتى لم يعد يثير فيه حتى الاستياء المصطنع.
العالم؟ وجهٌ بلا ملامح، مليء بالصلافة. حكومات تتشدق بالحقوق، تدين بجملٍ مستهلكة، ثم تمضي في صفقاتها التجارية وكأن شيئًا لم يكن. الغرب الذي صدّع رؤوسنا بحقوق الإنسان يختار متى يكون الضحية إنسانًا ومتى يصبح رقمًا في سجلّ الأضرار الجانبية. أما المنظمات الدولية، فهي ذاتها النكتة السمجة التي نسمعها كل مرة: بيانات، شجب، تحقيقات لن تكتمل، وتقارير توضع في أدراج النسيان.
ولقد "أسمعت لو ناديت حياً"..