الطاقة والسيادة .. بين شمسٍ تمنح الحرية ونواةٍ تفرض القيود
محمود الدباس - ابو الليث
18-03-2025 02:44 PM
كنت قد كتبت مقالين عن الكعكة الصفراء.. وبالأرقام.. ووجدت بأنها غير مجدية لدولة مثل الأردن.. بالشكل الذي يتم الترويج له.. وبعد سماعي لتصريحٍ لمسؤولٍ وازن.. عن مستقبل المشروع النووي.. والذي بدا واضحاً من خلاله.. الاستغناء عن فكرة بيع اليورانيوم.. والذي كان حلماً لنا.. بأن يدر المليارات على الخزينة.. وجدت أن من المهنية.. والموضوعية بمكان.. أن أكتب هذا المقال.. لحاجتنا الماسة للطاقة.. وأثرها الكبير على الخزينة..
فآثرت أن أضع كلامي على شكل فقراتٍ واضحة.. وأبوابٍ مفصلة.. وتساؤلات يثيرها البعض.. لكي يسهل على جميع المستويات.. فهم الصورة.. بالشكل البسيط.. غير المعقد.. وتكون أوضح للمقارنة.. وعلى الرغم من طول المقال.. فالحقائق تحتاج للتوضيح..
ففي قلب صحراء الأردن.. حيث تعانق الشمس الأفق بلا انقطاع.. يتجلى سؤال استراتيجي لمستقبل الطاقة في البلاد.. هل نستثمر في نور الشمس.. الذي يهبنا طاقة بلا نهاية؟!.. أم نغامر بالدخول إلى عالم الطاقة النووية.. بكل ما يحمله من تعقيد وتبعات؟!.. قرار ليس مجرد أرقام ومعادلات.. بل خيار.. يحدد شكل الاقتصاد.. والسيادة.. والبيئة.. لعقود قادمة..
التكلفة.. بين الاستثمار.. والالتزام طويل الأمد..
عند الحديث عن الأرقام.. نجد أن إنشاء محطة طاقة شمسية بقدرة 4 جيجاواط في الأردن.. يتطلب من 3 الى 5 مليار دولار.. حسب نوعية وكفاءة المواد والاجهزة المستخدمة..
بينما إنشاء أربع مفاعلات نووية.. بقدرة إجمالية مماثلة.. تتراوح تكلفتها بين 24 و36 مليار دولار.. أي أن الطاقة النووية.. تتطلب استثماراً أولياً.. قد يصل إلى 7.5 ضعفاً.. مقارنة بالطاقة الشمسية.. لكن الأمر لا يقف عند الإنشاء.. فالمفاعلات النووية.. تحتاج إلى تكاليف تشغيلية ثابتة.. من ضمنها التخلص من النفايات النووية.. والتي تقدر سنوياً بحوالي 600 إلى 900 مليون دولار.. للأربع مفاعلات..
استهلاك المياه.. المورد الأهم في بلد يعاني من شحها..
إضافة إلى ذلك.. تأتي مسألة استهلاك المياه كعامل رئيسي.. لا يمكن تجاهله.. إذ تحتاج المفاعلات النووية من 400 إلى 720 جالوناً من الماء لكل ميجاواط ساعي يتم إنتاجه.. هذا يعني.. أن محطة نووية واحدة.. بقدرة 1 جيجاواط.. قد تستخدم حوالي 9.5 إلى 17 مليون متر مكعب من المياه سنوياً.. وبالتالي.. فإن أربع مفاعلات.. بقدرة إجمالية 4 جيجاواط.. قد تستهلك ما بين 38 إلى 68 مليون متر مكعب من المياه سنوياً.. حسب التقنيات المستخدمة.. وهو رقم ضخم.. بالنسبة لدولة كالأردن.. تعاني من شح الموارد المائية.. وتخطط بشكل جدي للاعتماد على تحلية المياه.. واستيرادها أيضاً.. لتلبية احتياجاتها الأساسية.. بينما لا تحتاج محطات الطاقة الشمسية.. إلى أي استهلاك مائي يُذكر خلال التشغيل.. مما يجعلها أكثر ملاءمة لواقع الأردن المائي الهش..
المساحة.. الأرض أم البنية التحتية المعقدة؟!..
الأردن الذي يعاني من محدودية الأراضي الزراعية والمياه.. يجد نفسه أمام خيار مكاني بالغ الأهمية.. فمحطة طاقة شمسية.. بقدرة 4 جيجاواط تحتاج إلى حوالي 48 كيلومتراً مربعاً من المساحات الصحراوية.. أما المفاعلات النووية لذات القدرة.. فتحتاج إلى مساحة أقل من ذلك.. والتي تقدر بحوالي 16 كيلومتراً مربعاً.. لكنها تتطلب شبكة أمان واسعة.. تشمل مناطق محظورة حول المحطة.. ومواقع خاصة لتخزين الوقود المستهلك.. والنفايات المشعة.. بالإضافة إلى مصادر مياه ضخمة للتبريد.. وهو تحدٍّ قائم.. في بلد يعاني شُح المياه.. لضعف الموسم المطري التدريجي.. وهنا تأتي نقطة القوة التي يتمتع بها الأردن.. مقارنة بدول أخرى.. فهو واحد من الدول القليلة.. التي يمكنها توليد طاقة ضخمة من الشمس.. دون استنزاف مواردها المائية المحدودة.. مما يمنحه ميزة تنافسية.. عند تبني مشاريع الطاقة الشمسية..
الأردن.. دولة شمسية بامتياز..
الأردن يتمتع بإمكانات هائلة في مجال الطاقة الشمسية.. فهو يقع ضمن نطاق الحزام الشمسي.. حيث يتراوح متوسط الإشعاع الشمسي.. بين 5 و7 كيلوواط ساعة لكل متر مربع يومياً.. كما تشهد مناطق مثل معان.. سطوعاً شمسياً كاملاً.. لحوالي 260 يوماً في السنة.. وبشكل عام.. يُقدر عدد أيام السطوع الشمسي في المملكة.. بحوالي 330 يوماً سنوياً.. هذه الأرقام تجعل من الأردن.. بيئة مثالية لتوليد الطاقة الشمسية بكفاءة عالية.. وهو ما يمنحه ميزة فريدة.. لا تتوفر في العديد من الدول.. التي تعتمد على الطاقة الشمسية بشكل أساسي.. مثل ألمانيا.. أو الصين..
البيئة.. ما بين انبعاثات صفرية.. ونفايات خطيرة..
من الناحية البيئية.. تشكل الطاقة الشمسية خياراً نظيفاً.. فهي لا تطلق أي انبعاثات ضارة أثناء التشغيل.. كما أن التخلص من الألواح الشمسية المنتهية الصلاحية.. أكثر أماناً.. وأقل تعقيداً من التعامل مع النفايات النووية.. على الجانب الآخر.. تحتاج المفاعلات النووية.. إلى إدارة دقيقة لنفاياتها المشعة.. التي تبقى خطيرة لآلاف السنين.. وتتطلب حلولاً جيولوجية عميقة.. أو اتفاقيات دولية.. لنقلها ومعالجتها.. وهي قضايا لا تزال تثير مخاوف عالمية حول الأمن والسلامة..
مدة الإنشاء.. بين الانتظار.. والتدرج في الإنتاج..
عند مقارنة الزمن اللازم لإنشاء كل من محطة طاقة شمسية.. ومفاعل نووي.. نجد فرقاً جوهرياً في المدة والمرونة.. فمحطة الطاقة الشمسية.. بقدرة 4 جيجاواط.. تحتاج إلى حوالي 3 سنوات لتصبح جاهزة بالكامل.. والأهم أنها قابلة للإنشاء والتشغيل بشكل تدريجي.. حيث يمكن البدء بمزرعة شمسية.. بقدرة 1 جيجاواط.. وتشغيلها خلال عام إلى عام ونصف.. ثم التوسع لاحقاً.. حتى الوصول إلى القدرة المستهدفة.. مما يضمن الاستفادة من الإنتاج بشكل مبكر.. في المقابل.. لا يمكن تشغيل المفاعل النووي.. إلا بعد اكتمال بنائه بالكامل.. وإجراء جميع الاختبارات.. والتراخيص اللازمة.. وهو ما يستغرق.. حوالي 10 إلى 12 سنة.. قبل أن يبدأ بإنتاج أي طاقة.. ما يعني أن الأردن سيظل في حالة انتظار طويل.. دون مردود فعلي للطاقة النووية.. بينما يمكنه تحقيق إنتاج متدرج وسريع.. مع الطاقة الشمسية..
المخاطر والضغوط الدولية.. الطاقة.. أم السيادة؟!..
خيار الطاقة النووية لا يُتخذ بمعزل عن السياسة العالمية.. فامتلاك منشآت نووية.. يجعل الأردن تحت رقابة دولية مشددة.. وقد يفرض قيوداً على السيادة الوطنية.. فيما يتعلق بالتعامل مع الوقود النووي.. ونقل النفايات.. فضلاً عن الحاجة المستمرة.. إلى تأمين المواد المشعة.. وسط إقليم مضطرب سياسياً وأمنياً.. في المقابل.. الطاقة الشمسية.. تمنح استقلالية تامة.. دون تعقيدات سياسية.. أو أمنية..
أي طريق سنسلك؟!..
عندما نضع كل هذه المعطيات.. أمام صانع القرار.. نجد أن الطاقة الشمسية.. تقدم حلاً.. أقل تكلفة.. وأسرع تنفيذاً.. وأقل خطراً.. بينما الطاقة النووية.. رغم قدرتها على إنتاج كهرباء مستقرة.. إلا أنها.. تحمل تكلفة باهظة.. ومخاطر تشغيلية.. وسياسية عالية.. والأهم من ذلك.. أن الأردن يتمتع بمناخ شمسي مثالي.. يسمح له بتوليد كميات هائلة من الطاقة.. دون الحاجة إلى استنزاف موارده المائية المحدودة.. فهل من الحكمة.. أن يقيد الأردن مستقبله في برنامج نووي.. مُكْلِف.. ومعقد؟!.. أم أنه من الأجدى.. استثمار موارده في توسيع مشاريع الطاقة الشمسية.. التي تتلاءم مع طبيعته الجغرافية.. وإمكانياته الاقتصادية؟!..
لا شك أن الطاقة النووية.. تظل خياراً مطروحاً عالمياً.. بسبب استقرار إنتاجها.. وعدم تأثرها بالعوامل الجوية.. وهو ما يجعلها مصدراً مفضلاً لبعض الدول.. التي لا تمتلك إمكانات طاقة متجددة كافية.. لكن عندما ننظر إلى خصوصية الأردن.. من حيث موارده الطبيعية.. وتحدياته الاقتصادية.. والمائية.. وحتى السياسية.. يصبح من الضروري تقييم هذا الخيار بعين الواقع.. وليس بناءً على التجارب الدولية وحدها..
بالمحصلة.. هذه العوامل مجتمعة.. تؤثر بشكل مباشر على كلفة إنتاج الطاقة.. وبالتالي.. سيكون لها الأثر الواضح والملموس.. على سعر البيع.. وجيب المواطن..
القرار يبقى بيد من يملك رؤية واضحة لمستقبل الأردن.. رؤية لا تنحاز.. إلا لما يحقق الاستقلالية.. ويضمن الاستدامة.. ويجنب البلاد.. التورط في تعقيدات أكبر من قدرتها على التعامل معها.. دون أخذ الخاطر لأي جهة.. أو أشخاص..