المساورة فعلٌ فكريّ يتجاوز التصديق السهل، ويحفر مساراته عبر الأسئلة القلقة التي لا تستكين لإجابة، وإنما تتجدّد كلما أوشكت على الاكتمال. إنها ممارسة ذهنية تُبقي الفكر معلقًا بين الاحتمالات، دون أن تسقطه في فراغ الشك المطلق أو تغلق عليه أبواب اليقينيات القاطعة. فالمساورة لا تشكل رفضًا للمعرفة، وإنما مُقاومَةٌ مستمرة لسلطة الجاهز والمطلق، وتمرينٌ على التحرّر من سطوة الفكرة حين تتحوّل إلى عقيدة غير قابلة للمراجعة. فما إن تترسّخ القناعة في وعي الإنسان، حتى يتسرب إليها الخمول، ويصبح العقل مسكونًا براحة الاستقرار الذي يتناقض مع جوهره الحيّ. فالمساورة تشكيكٍ غير اعتباطيّ، وإنما يقظة دائمة، تضع الفكرة على المحك، تختبرها في معترك الزمن، تفككها حين تتصلّب، وتعيد تشكيلها من جديد، مثلما تفعل المياه بالصخور التي تظن نفسها راسخة. فبين سقراط الذي أرهق اليقينيات بأسئلته، وديكارت الذي لم يسلّم حتى بحواسه، يمتدّ خط طويل من الفكر الذي يرفض أن ينحني أمام الحقيقة المطلقة.
وحين يغوص المتصوف في تأملاته، لا يسلّم بانغلاق المعرفة، بل يطاردها عبر التجربة، حيث لا يصل إلى يقين إلا ليكتشف أن هناك دائمًا أفقًا أبعد مما تصوّر.
والمساورة لا تشكل شأنًا فرديًا فحسب، فهي موجةٌ تمسّ الوعي الجماعي كلما بدأ يركن إلى سرديّاته الثابتة. فهي التي تجعل المجتمع يعيد النظر في مسلماته، ويطرح الأسئلة التي تُهدّد انسجامه الظاهري، وتفتح الباب لاحتمالات لم يكن يجرؤ على استحضارها. وحين يخرج فرد عن المسار المرسوم، لا يفعل ذلك اختلافاً اعتباطياً، فقد أدرك أن في ظلال المسلّمات مساحات لم تُستكشف بعد. تتجلى هذه الروح في عالم الفن في النصوص التي لا تمنح القارئ يقينًا، بل تتركه متأرجحًا بين التأويلات، متورّطًا في الأسئلة أكثر مما هو مغمورٌ بالإجابات.
وفي الفلسفة، تتحوّل المساورة إلى وعيٍ مفتوح، يبحث عن حركة دائمة، كما فعل نيتشه حين هدم الأصنام الأخلاقية، أو دريدا حين كشف عن زيف الثبات في اللغة ذاتها.
في جوهر المساورة، قلقٌ لا يهدأ، لكنه قلق الإدراك، حيث يتحوّل الإنسان من مستهلكٍ للأفكار إلى صانعٍ لها، ومن تابعٍ للمفاهيم إلى مفكّكٍ لها. المساورة ضرورةٌ للحفاظ على حيوية العقل، وحماية الفكر من التحوّل إلى منظومةٍ مغلقة تتكرّر في دورات لا نهائية. وففي الأنظمة المغلقة، تُعتبر المساورة خطرًا لأنها تهدّد استقرار اليقينيات التي يقوم عليها النسق السائد، بينما في العقول الحرة، تصبح طاقةً دافعةً لإعادة تشكيل العالم على ضوء الأسئلة الجديدة.
الزمن الذي نعيشه اليوم لا يسمح بالتسليم السريع للأفكار، فالتضخم الخطابي يحاصر الإنسان بمعرفة مشوّهة، مزيجٌ من الأيديولوجيات الجاهزة والمعلومات المتناثرة التي تتخفّى في ثوب الحقائق. هنا، تصبح المساورة درعًا ضد السقوط في الاستهلاك الذهني، دعوة إلى التريّث، وإلى التأمّل في بنية الفكرة قبل القبول بها، وإلى مقاومة السهولة في الفهم كما في الحكم. والمساورة لا تشكل رفضًا لكل شيء، إنها قضية تفكيكٌ وإعادة بناء لا تنتهي، وتذكيرٌ دائم بأن الجواب قد يكون مجرد استراحة مؤقتة، وأن الفكر الحيّ لا يستقرّ، بل يظلّ عالقًا بين السؤال والسؤال.
المساورة فكرٌ يتسلل إلى بنية الثقافة نفسها، يزعزع يقينياتها المتراكمة، ويفكك مفاهيمها المترسخة، دون هدمها اعتباطًا، ولكن ليعيد تشكيلها في ضوء التساؤل الدائم. إنها حركة دائمة بين المعاني، ومقاومةً للثبات ومتوغلةً في الهامش، حيث تتلاشى حدود المطلق ويتحول الإدراك إلى تجربة مفتوحة لا تخضع لمنطق الامتثال. إنّ النسق الثقافي شبكة من القيم والرؤى التي تحدد إدراك الجماعة لوجودها، تترسخ عبر التربية والخطاب والتاريخ، وتعيد إنتاج نفسها كيقينٍ لا يقبل المساءلة. غير أن هذا اليقين لا ينشأ إلا عبر التكرار، وكلما تكررت الفكرة أصبحت جزءًا من بنية لا يجرؤ العقل الجمعي على اختراقها. هنا تتجلى المساورة، كحالة اختراق، كتحدٍ لهذا النسق الذي يسعى للحفاظ على استقراره عبر قمع الأسئلة، فتحاول أن تشق صدعًا في الجدار، تفسح مجالًا للقلق كي يتسلل، وتعيد تشكيل المشهد خارج حدود الامتثال.
إنّ اللغة، بوصفها حاملًا للثقافة، ليست أداة محايدة، وإنما فضاءٌ يمارس النسق من خلاله سلطته، إذ ترسّخ الكلمات معانيها عبر التكرار، لتصبح مفاهيم راسخة تُستهلك دون مساءلة. غير أن المساورة قادرة على خلخلة هذه البنية، وعلى تفكيك المعنى وإعادة تركيبه، كما فعلت التفكيكية حين قوضت المعنى الأحادي للكلمات، وكما كشف التحليل النفسي أن اللغة ليست وعاءً صافياً للمعرفة، فهي حقلٌ تتداخل فيه الدلالات، حيث لا معنى مستقر، فهو انزلاقٌ دائم بين المفاهيم. هذا التوتر بين ما تقوله الكلمات وما تحجبه هو ما يمنح اللغة طاقتها المساورية، حيث تتحول من أداة تواصل إلى حقل صراع بين اليقينيات المهتزة والمعاني التي لا تكفّ عن التحول.
تبدو اليقينيات داخل الأنساق الدينية أكثر صلابة، حيث تفرض العقائد إجاباتها القاطعة حول الأسئلة الكبرى للوجود، لكن التاريخ لم يكن خاليًا من محاولات مساورة هذه اليقينيات من الداخل، من تجارب التصوف التي رأت في المطلق تجربة يُسعى إليها بالحدس، وإلى الفلسفات التي أعادت تأويل النصوص بعيدًا عن ظاهرها، بحثًا عن المعنى المتواري خلف البنية المغلقة. لم يكن هذا التوتر بين الامتثال والمساورة سوى انعكاس لصراع أعمق بين الحرف والتأويل، بين الانقياد للنص والانفتاح على تعدديته، بين المعرفة كيقين والمعرفة كرحلة لا تنتهي.
وفي الفنون، تكون المساورة موقفاً وأسلوبًا في إنتاج المعنى، حيث تتلاشى الحدود بين الحقيقة والتخييل، ويتحول النص إلى فضاءٍ تتقاطع فيه الاحتمالات. في الرواية الحديثة، تماهت الأزمنة وتشظت الأصوات، كما في سرد كافكا الذي كشف هشاشة المعنى، أو في كتابات بورخيس التي جعلت من النصوص متاهات لا مخرج منها. أما الشعر، فقد تخلّى عن يقين الخطاب، ليصبح مجالًا للقلق، للفراغ الذي يُفسح المجال للأفق، كما نجد في قصائد أدونيس التي لا تبحث عن المعنى، وتفتحه على احتمالات لا نهائية.
وفي السرديات التاريخية، حيث يُعاد تشكيل الماضي وفق ضرورات الحاضر، تصبح المساورة فعلًا يهدد الانسجام الظاهري للروايات الكبرى، يكشف عن فجواتها، وعن سلطتها في فرض نسق معين من الحقيقة. ومن مساءلة إدوارد سعيد للاستشراق باعتباره بنية خطابية فرضها الغرب لترسيخ سلطته، إلى قراءات فوكو التي عرت التاريخ من ادعائه للموضوعية، موضحة أن كل معرفة ليست سوى امتداد لعلاقات القوة. هكذا، تكون إعادة قراءة التاريخ إعادة لإنتاجه من منظور يضعه موضع التساؤل.
إذا كانت المساورة تمثل قلقًا يهدد استقرار الأنساق الثقافية، فإن السؤال الذي يفرض نفسه: هل يمكن لها أن تصبح وعيًا دائمًا، أم أنها تظل هامشية، مقصورة على النخب الفكرية؟ في المجتمعات ذات البنى السلطوية، يُنظر إلى المساورة باعتبارها خطرًا، محاولةً لزعزعة الانسجام، بينما في الأنساق الأكثر انفتاحًا، تصبح المساورة جزءًا من سيرورة تطور الوعي، حيث لا تُقمع الأسئلة، وتُترك مفتوحة لتتحول إلى محرك للفكر. غير أن الخطر الذي يواجه المساورة في تحولها إلى ممارسة شكلية، إلى شكٍ يتكرر دون أن يحمل قدرة على تفكيك النسق، حيث تصبح فعلًا استهلاكيًا لا يهدد الاستقرار بقدر ما يعيد إنتاجه بصورة أخرى.