هل يغيّر ترامب "مُسلَّمات" السياسة الخارجية الأمريكية؟
د.أحمد بطاح
16-03-2025 01:04 PM
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في عام 1945 تبنت الولايات المتحدة تحالفات معينة نابعة من مصالحها، ومن منظومتها القيمية ورسالتها التي تراها لنفسها، ولعل أهم هذه التحالفات التي ظلت راسخة وبغض النظر عن تغّير الرؤساء والإدارات:
أولاً: الانتظام في حلف "الناتو" والإسهام الرئيسي في موازنته، بل وتشكيل الثقل الأساسي فيه، وغني عن القول إن هذا الحلف كان يضم عند إنشائه معظم دول أوروبا الغربية بالإضافة إلى الولايات المتحدة أما الآن فهو يضم اثنتين وثلاثين (32) دولة بعد انضمام كل من فنلندا والسويد مؤخراً إليه.
ثانياً: التحالف مع أوروبا الغربية أولاً ثم كل أوروبا (الغربية والشرقية) بعد انهيار الاتحاد السوفياتي في عام 1991، والواقع أن هذا التحالف تعمّد بالدم عند دخلت الولايات المتحدة الحرب العالمية الثانية مُلقيةً بكل ثقلها العسكري والاقتصادي إلى جانب أوروبا (بريطانيا، فرنسا، ….) وقد شفعت ذلك بدعم اقتصادي هائل بعد الحرب من خلال مشروع "مارشال" لإنقاذ أوروبا من الدمار والخراب، ولم يشمل هذا الدعم دول الحلفاء من أوروبا (بريطانيا وفرنسا) فقط بل شمل حتى الدول الأوروبية التي شكلت "دول المحور" المعادي خلال الحرب العالمية الثانية مثل ألمانيا وإيطاليا.
ثالثاً: معاداة الاتحاد السوفياتي سابقاً وروسيا لاحقاً حيث اعتبرت الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي خطراً استراتيجياً عليها، ولم يختلف الأمر كثيراً بعد أن خلفت روسيا الاتحاد السوفياتي بعد سقوطه في عام 1991، حيث ظلت الترسانة النووية الهائلة التي كان يملكها الاتحاد السوفياتي في يد روسيا (6.000 رأس نووي إستراتيجي)، وحيث ظلت روسيا عدواً مُفترضاً بالنسبة للدول الأوروبية حليفة الولايات المتحدة في حلف "الناتو"، وقد رأت هذه الدول الأوروبية أن الهجوم الروسي على أوكرانيا دليل قاطع على أن روسيا عدو خَطِر "كامن" للدول الأوروبية وبالتالي للولايات المتحدة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا في ضوء تقارب ترامب مع روسيا (لحل النزاع الروسي الأوكراني أساساً)، وفي ضوء تهديد ترامب بالانسحاب من الناتو إذا لم ترفع الدول الأوروبية مساهمتها المالية في الحلف بحيث تصل 5% من الناتج القومي الإجمالي، (الأمر الذي يهدد التحالف التاريخي بين الولايات المتحدة وأوروبا ويخلق بلبلة واضطراباً في العلاقات الدولية التي ظلت سائدة طوال ثمانين (80) سنة تقريباً). هذا السؤال هو: هل يستطيع ترامب حقاً تغيير هذه التحالفات التي يُفترض أنها مُسلمات من منظور "الجيوبوليتك" الأمريكي؟ إنّ ذلك في حقيقة الأمر مُستبعد وذلك بالنظر إلى الاعتبارات الآتية:
أولاً: أنّ الرأي العام الأمريكي بشكل عام، والنخب السياسية (Elite)، والدولة العميقة (Deep State) لن تقبل العبث بهذه التحالفات لأنها تدرك أنها هي "التحالفات الطبيعية" في ضوء المصالح الأمريكية (American Interests)، ومنظومة القيم الأمريكية (Value-Systems).
ثانياً: أنّ الحزبين الأمريكيين الرئيسيين (الجمهوري والديموقراطي) متوافقان إجمالاً على أهمية وحيوية هذه التحالفات، وأنها هي "التحالفات الطبيعية" في ضوء العوامل المشار إليها آنفاً والمتعلقة بالمصالح والقيم. إنّ الحزبين: الجمهوري والديموقراطي في الولايات المتحدة يشكلان "الفئة المُسيّسة" وهما اللذان يفرزان القيادات الهامة كالرئيس، وأعضاء الكونغرس (النواب والشيوخ)، وحكام الولايات وغيرهم، ومع أن هذين الحزبين قد يختلفان أحياناً في بعض الطروحات إلا أنهما في الواقع لا يختلفان في "الأساسيات" المتعلقة بمصلحة الولايات المتحدة، وخياراتها الاستراتيجية وبالذات على المستوى العالمي.
ثالثاً: طبيعة النظام السياسي الأمريكي القائم على التوازن بين السلطات (Cheques And Balances) أيّ بين السلطة التنفيذية التي يمثلها الرئيس، والسلطة التشريعية التي يمثلها "الكونغرس"، والسلطة القضائية التي تمثلها المحاكم وبالذات "محكمة العدل العليا" (Supreme Court). إن طبيعة هذا النظام لا تتيح للرئيس -حتى وهو يملك صلاحيات أقوى رئيس تنفيذي في العالم، وحتى وهو يملك الأغلبية في الكونغرس وفي نوعية قضاة المحكمة العليا- أن "يتفرد" بالقرار ويقلب أولويات وتحالفات البلاد رأساً على عَقِب.
رابعاً: ضغط "العدو الاستراتيجي" -وهو روسيا في هذه الحالة وقد تكون الصين قريباً- على ترامب، حيث من الطبيعي أن لهذا العدو (من وجهة النظر الأمريكية) مصالح تتضارب مع المصالح الأمريكية أو مع مصالح حلفائها كما يحصل الآن نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية، الأمر الذي لا يترك له مجالاً إلا أن يتبنى موقف الند والطرف الآخر. صحيح أن العلاقات الشخصية (كما يحصل الآن بين بوتين وترامب) قد تلعب دوراً في تحسين العلاقات، وتليين العداوات، ولكن الحقائق في النهاية تفرض نفسها.
وختاماً فإن "تحالفات الولايات المتحدة" نابعة من مصالحها أو من رسالتها ورؤيتها لنفسها وللعالم، ولذا فلا يستطيع ترامب أو أيّ رئيس آخر أن "يعبث" بهذه التحالفات. إنه قد يستطيع إعادة ترتيب الأولويات (Priorities)، أو تضخيم وتهوين بعض التحالفات وانعكاساتها، ولكنه بالقطع لا يستطيع تغيرها، وإنّ غداً لناظره قريب.