ثغرة أمنية في خوارزمية جنوب سوريا والملء الإسرائيلي للفراغ
د. أحمد الحياري
16-03-2025 12:23 PM
لم تكن تشكل الاقليات أزمة في المنطقة العربية، وتحديدا في بلاد الشام. كان التنوع الطائفي والعرقي احد اهم ميزات هذه البلاد، فما الذي حصل حتى بدا انه يمكن ان يتحول هذا التنوع الى أزمة، أو ان تشكل حالة من اللاستقرار الامني والسياسي والاقتصادي؟
ليس اسرائيل وحدها السبب إلا أنها كانت قادرة على إستغلال أي ثغرة أمنية في خوارزمية المنطقة للولوج إليها وتعظيمها والعبث في بنيتها.
تعالوا نأخذ النظام السوري المخلوع نموذجا.. إنه بنى نفسه تدريجيا على أساس طائفي، وجعل الاقليات عنوانه. صارت الأكثرية متهمة والاقليات مصانة.
خلع الشعب السوري هذا النظام، وبدا ان سياسة جديدة تستند اليها تحركات الادارة الجديدة التي تقود سوريا اليوم، لكن فئتين سياسيتين لا تبدوان سعيدتان بما جرى: بعض شيوخ العقل في الطائفة العلوية وقيادة الاكراد السياسية. أما الاكراد فلم يكونوا مشكلة وطنية سورية بل عنوان من عناوين "ثغرات" المنطقة بأسرها، ثم نجحت الادارة السورية في تبريد أزمتهم بدفع من عوامل وأيد خارجية.
وبدفع من عوامل وأيد خارجية أيضا ظهرت "ثغرة" عنوانها الطائفة الدرزية التي سيدرك المتصفح في تفاصيلها سريعا خطورتها، لكن ليس لذاتها بل لتفاصل وضع أيد خارجية فيها، وليست أي يد: إسرائيل.
وفي مقابل جهد اسرائيلي ضخم لاحتواء الطائفة في المنطقة، يبدو أننا أمام جهود عربية متواضعة للعمل على تعزيز مناعة الطائفة من يد العبث الإسرائيلية.
الكثير من المفارقات تحملها ما يراد لها أن تتحول إلى أزمة. ومنها انه لا يوجد مطالب خاصة لأهل مناطق السويداء تختلف عن مطالب عموم سوريا، بل إن المخاوف الاساسية كانت من ان شمال سوريا، حيث مناطق الاكراد هي الخاصرة الضعيفة للسوريين. فجأة لم تعد كذلك، فشمال سوريا يتجه للحل بصورة فاجأت الجميع، فيما فجأة انفجرت ازمة السويداء الازمة التي يبدو من البداية انها خطيرة وحساسة ومستعدة للاتساع.
لم تكن مناطق الدروز تشكل للمنطقة ازمة يوما، وليسوا هم اليوم كذلك، لكن العبث الاسرائيلي يعمل بشكل حثيث لجعل المنطقة كلها في اشتعال. فيما يبدو أن الضعف العربي لن يستطيع ان يفعّل أدواته وينجح كما حصل بشمال سوريا.
ففي جنوب سوريا نحن أمام شلل في المعالجات العربية للازمة برغم انها أزمة تهدد من حولها من الدول العربية وهي كثيرة. فأين الرؤية والمعالجات العربية؟
وفي مقابل رؤية الجميع بالعين المجردة للتهديد الاسرائيلي عبر تنفيذ الجيش الاسرائيلي سلسلة من الاجراءات في القنيطرة والسويداء حتى باتت دمشق نفسها مهددة، واتخاذها اجراءات امنية بل واقتصادية؛ لا نرى في المقابل، أي اجراءات عربية وليس فقط سورية لحماية المنطقة من الجرأة الاسرائيلية على المنطقة.
إن سوار السويداء محيط بمحصم المنطقة ويمكن ان يشكل له حزاما من النار، بينما المطلوب من العرب رعاية المنطقة واحتضانها وتشكيل جدار صد من الحلم الاسرائيلي فيها.
من الجولان الى الفرات.. هذا هو الحلم الاسرائيلي. حلم يشكله ممر اطلق عليه المفكرون السياسيون الاسرائيليون ممر داود الذي يطمح لبناء اسرائيل الكبرى.
بدأ الأمر في ثمانينات القرن الماضي عندما كان الجيش الاسرائيلي يحتل العاصمة اللبنانية ثم خفت، ثم ها هو يعود من جديد الى الحياة.
عاد الحلم مجددا الى الخطط الاسرائيلية ولأنه بحاجة الى أعمدة تقوم عليه من اجل ضمان تنفيذه تسعى اسرائيل الى بناء هذه الاعمدة: دولة شمال سوريا للأكراد، وأخرى في الجنوب، للدروز.
ليس هذا وحسب. الممر الاسرائيلي يقوم على أدوات جوهرية على رأسها تقسيم المنطقة لدويلات صغيرة متصارعة تحكمها الطوائف والمذاهب.
اسرائيل الدولة الغريبة كليا عن المنطقة تحتاج الى تفتيت المفتت من أجل ضمان أمنها واستمرارها. الاستراتيجية الامنية الاسرائيلية تقوم على ان ضمان امن اسرائيل يتطلب اشاعة الفوضى الامنية في الاقليم. ولن يضمن ذلك اكثر من تفتيت المنطقة الى دويلات متصارعة متناحرة تكره بعضها بعضا. وتكون وسطها دولة اسرائيل القوية واللاعب الرئيسي.
وسط هذا المخطط علينا ان نرى مشهد الحافلات الإسرائيلية التي كانت تحمل العشرات من شيوخ الدروز في القنيطرة وريف دمشق. الحافلات التي استقبلها الاسرائيليون في معبر مجدل شمس الخاضع للاحتلال بيافطات كتب عليها "مكتوب على سيوفنا، أهلا وسهلا بضيوفنا"
هذا مشهد من بين مشاهد أخرى تكتمل فيها حجارة التقسيم لتجهيز اللوحة الكاملة، ومنها تدفق رزم المساعدات الاسرائيلية التي أدخلت الى مناطق جنوب سوريا وتحديدا التي يقيم فيها الطائفة الدرزية، خلال الايام الماضية، بينما أعلن الاحتلال عن انتهائه من الاستعدادات لاستقبال العمال الدروز الذين سيدخلون قريبا إلى الجولان من أجل العمل.
زيارة شيوخ الطائفة هي الأولى منذ 50 عاما. وبعيدا عن الادعاء بأن هدفها الحج الى قبر النبي شعيب في الجليل الأسفل داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة، لكنها زيارة يجب ان تكون مقلقة للغاية للمنطقة بأسرها قبل أن تكون للإدارة السورية الجديدة.
المشهد يكثّف حقيقة ما تعمل عليه الحكومة الاسرائيلية في هذه المرحلة
تطورات متسارعة تأتي في ظل تصاعد الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا بعد انهيار نظام بشار الأسد، كما تأتي بعد أيام قليلة من تصريح الزعيم الروحي للطائفة الدرزية في سوريا حكمت الهجري، بأنه لا يوجد اتفاق ولا موافقة مع النظام السوري الجديد المتطرفة وانه سيعمل من أجل مصالحنا كطائفة. وعلى حد قوله، ان المرحلة "نكون أو لا نكون" وانه سيتجه بالطائفة في الاتجاه الذي يناسبها".
نعم. أصدر أهالي وعائلات بلدة حضر في جنوبي سوريا بيانا استنكروا فيه الزيارة، لكن ما يخشى ان يكون هذا البيان نقطة في نهر متدفق في الاتجاه المعاكس.
لما لها من عمق ضارب في التاريخ، يعيش على ارض سوريا تنوع طائفي اثني: السنة وهم الاغلبية ثم العلويين والشيعة، والمسيحيين والدروز. هذا من ناحية الديانات اما من حيث الاعراق، فيميزها ما يميز بلاد الشام وإن كان المشهد في سوريا ذات تكثيف اعلى.
هذا كله تراه اسرائيل الورقة الرابحة لها. لكن كيف؟
ولد مسمى "ممر داوود" تدريجيا في رأس الصهيونية، عندما كان يعيث الجيش الاسرائيلي فسادا في بيروت، لكن من وضع له أساساته اللاحقة هو رئيس وزراء اسرائيل الاسبق شمعون بيريز في كتابه الذي يحمل اسم الشرق الاوسط الجديدة. الطريق بالدرجة الاولى اقتصادي لكنها في سياق انشائه يتطلب تجزئة دول عربية وطحن بعضها وتقسيمها.
الممر يبدأ من الجولان المحتلة حتى يحط رحاله على ضفاف الفرات في العراق.
ومن الجولان يتجه نحو القنيطرة ثم الى درعا الى السويداء التي سيسير معها بمحاذاة الحدود السورية الاردنية وهي مناطق صحراوية تقم في محافظة حمص، وصولا الى بلدة التنف البلدة التي تعتبر حاليا تحت الوصاية الامريكية، وهي البلدة التي تعتبر مثلث حدودي سوري اردني عراقي، وهي اخطر من ذلك البلدة الحدودية للدولة الثانية المفترضة "الكردية".
وسيستمر الممر بالتقدم منطلقا نحو دير الزور السورية وصولا الى معبر البوكمال المعبر السوري العراقي، الذي سيصبح في حال جرى تقسيم سوريا ضمن أراضي الدولة الكردية التي يبدو انها صعبة المنال بوجود حائط الصد التركي.
هل تجدون الان ما يجيب عن الاسئلة الغامضة لما يقوم به
* باحث / مركز الدراسات الاستراتيجية