إسرائيل واستراتيجية الحرب المستمرة
صالح الشرّاب العبادي
16-03-2025 11:58 AM
تواصل إسرائيل عملياتها العسكرية في أكثر من جبهة، معتمدة على ( استراتيجية التماس المستمر ) ، وهو تكتيك لا يعني سوى استمرار الحرب بأشكال مختلفة دون إعلان رسمي عن انتهائها ، فمنذ اندلاع المواجهات في غزة، لم تلتزم إسرائيل فعليًا بأي اتفاق لوقف إطلاق النار، حيث واصلت قصفها المستمر، سواء عبر الضربات الجوية المركزة أو عبر الاغتيالات التي تستهدف قيادات عسكرية وسياسية مؤثرة، لم تكن هذه الخروقات مجرد استثناءات أو ردود فعل آنية، بل جاءت في سياق سياسة ثابتة تهدف إلى إبقاء حالة الحرب مستمرة دون انقطاع ، مما يضمن لإسرائيل حرية العمل العسكري وفقاً لمتغيرات الواقع الميداني والسياسي.
في لبنان، لم يلتزم الاحتلال بالاتفاقيات التي ترعى الوضع الحدودي، رغم التزام الدولة اللبنانية وحزب الله بتفاهمات التهدئة، فعلى العكس، استمرت إسرائيل في تنفيذ ضربات جوية ومدفعية، مستهدفة مواقع في الجنوب اللبناني تحت ذرائع أمنية واهية، بينما تُبقي على سياسة الاغتيالات التي لم تتوقف حتى في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، هذا النهج يعكس رفض إسرائيل لأي صيغة استقرار طويل الأمد، حيث تسعى إلى استنزاف الطرف الآخر عبر حرب استنزاف منخفضة الوتيرة لكنها مستمرة( حالة التماس المباشر دون انقطاع) ، تتيح لها السيطرة على مسار الصراع دون أن تنجر إلى مواجهة شاملة قد تكون لها تداعيات استراتيجية معقدة.
أما في سوريا، فقد تحولت الضربات الإسرائيلية إلى نهج عسكري روتيني، إذ تستهدف بشكل مستمر مواقع يُعتقد أنها تابعة لمحور المقاومة، متذرعة بمبررات مرتبطة بالوجود الإيراني أو نقل الأسلحة إلى لبنان، هذه الاستراتيجية تهدف إلى إبقاء الجبهة السورية مشتعلة ضمن إطار ( المعركة بين الحروب) ، وهي سياسة إسرائيلية تهدف إلى استنزاف القوى العسكرية المعادية ومنعها من التمركز أو إعادة بناء قدراتها الدفاعية والهجومية.
لم تؤدِّ الإدانات الدولية ولا التحذيرات الإقليمية إلى كبح جماح هذا النهج، بل بدا واضحاً أن إسرائيل تراهن على تشتت الأولويات الدولية وانشغال الدول الكبرى بأزماتها الداخلية والخارجية، ما يمنحها هامشاً أوسع لتنفيذ ضرباتها دون مخاوف جدية من ردود فعل قوية مع توسيع دائرة احتمالات التأثير للنطاق العريض يصل الى اليمن وايران والعراق..
المفارقة تكمن في أن إسرائيل، رغم استمرارها في العمليات العسكرية، تسعى إلى تصدير خطاب سياسي يوحي بأنها تحاول تجنب تصعيد شامل وبنفس الوقت تسعى الى استمرار التماس وعدم وقف العمليات يشكل نهائي ، هذا التناقض بين الخطاب والممارسة يعكس استراتيجية أوسع تتبعها تل أبيب، تقوم على مبدأ “الإدارة النشطة للصراع” بدلاً من حله، فهي لا تريد إنهاء الصراع بشكل جذري، لأنها تدرك أن تحقيق ذلك قد يفرض عليها تنازلات سياسية أو جغرافية لا ترغب بها، كما أن استمرار التوتر يخدم أهدافها في استنزاف الخصوم ومنعهم من التقاط أنفاسهم وإعادة ترتيب صفوفهم.
إن تحليل المشهد الحالي يكشف عن أن ما تم الترويج له من حديث عن تهدئة أو وقف لإطلاق النار لم يكن أكثر من ( استراحة محارب يقظ ) بالنسبة لإسرائيل، التي لم تتوقف فعلياً عن العمل العسكري ، هذه السياسة لا تقتصر على الاستهداف المباشر، بل تشمل أيضاً الحرب الاقتصادية والتضييق على القطاع المدني، سواء عبر منع دخول المساعدات إلى غزة، أو من خلال فرض قيود مشددة على المعابر، بما يؤدي إلى خنق الحياة في المناطق التي تعتبرها إسرائيل تهديداً استراتيجياً لها ، وبالتالي، فإن استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية لا يمكن النظر إليه على أنه مجرد رد فعل على تهديدات أمنية، بل هو جزء من عقيدة عسكرية وسياسية ترى في إدارة الصراعات المفتوحة بديلاً عن حلول مستدامة، ما يجعل المنطقة دائماً على حافة انفجار مستمر .