البادية الأردنية مكتبة الصخور الحيّة
أ.د سلطان المعاني
16-03-2025 11:37 AM
تمثل البادية الأردنية الجنوبية الشرقية والشمالية الشرقية أرشيفًا ضخمًا منحوتًا في الصخور، حيث تحتضن آلاف النقوش والرسومات التي تعود إلى عصور ما قبل التاريخ واستمرت عبر الأزمنة التاريخية المتعاقبة. هذه النقوش علامات على الحجر، تمثل ذاكرة موثقة لمراحل تطور الكتابة وأثرٌ خالد لثقافات مرت عبر هذه المساحات الصحراوية، حيث تشكل كل صخرة صفحة من كتاب مفتوح يروي قصصًا لم يكتبها قلم، بل حفرتها الأيادي عبر العصور.
تشكل البادية الأردنية متحفاً طبيعياً مفتوحاً يزخر برسومات قديمة لحيوانات وأشكال بشرية تعود إلى العصر الحجري، كاشفةً عن البدايات الأولى للتواصل البصري والرمزي. مع مرور الزمن تحولت الصخور إلى مساحات نقشٍ وكتابة، حيث ظهرت عليها الكتابات العربية الشمالية القديمة المكتوبة بالخط المسند، إلى جانب بعض النقوش النبطية والسريانية وغيرها من الخطوط التي تعكس تنوع التأثيرات الثقافية التي شهدتها المنطقة. ويجعل هذا الامتداد الزمني للنقوش من البادية أحد أوسع الأرشيفات الطبيعية للنصوص القديمة، حيث يُحفظ التاريخ في عمق الصخر الصامت الذي ظل شاهدًا على تبدل العصور والأزمان.
تمثل النقوش العربية الشمالية المكتشفة في البادية الأردنية شهادة حية على تطور اللغة العربية قبل الإسلام، حيث وثقت حياة القبائل، ومعتقداتهم، وصراعاتهم، وأساليب عيشهم، مما جعلها مصدرًا أساسيًا لفهم تاريخ المنطقة. الكثرة الكاثرة هذه النقوش تروي وقائع الحياة اليومية، وتحمل تجارب فردية لرجال ونساء تركوا أسماءهم وأدعية وتأملات تعكس وعيهم بالوجود والمصير. إلى جانب العربية، تكشف النقوش عن تأثير الخط النبطي، الذي شكل مرحلة وسيطة في تطور الأبجدية العربية، إضافة إلى السريانية وغيرها من الخطوط التي تعكس التفاعل الحضاري العابر للزمن. إن هذه النقوش أدوات تسجيل لامتداد هويات أصحابها ومحاولة لتخليد أصوات لم يكن لها أن تبقى لولا هذه الحجارة التي احتفظت بها عبر القرون.
فالبادية الأردنية ليست صحراء قاحلة، إنها مكتبة في الفضاء المفتوح، حيث تُقرأ النصوص على الصخور تحت السماء مباشرة. في حين أن المكتبات الحديثة تجمع الكتب داخل جدران، فإن هذه المساحة الطبيعية تحتضن أضخم سجل موثق للنقوش يمتد عبر آلاف السنين. هذا يجعلها موقعًا أثريًا ممتداً على الآلف الكيلومترات، وسجلًا حيًا للتاريخ الإنساني، حيث يمكن لأي باحث أن يتتبع تطور الكتابة، وتغير المعتقدات، وتطور أنماط الحياة عبر العصور، ويجد في هذه النقوش ما يوازي السجلات المكتوبة في أعظم الحضارات.
إن قيمة هذه النقوش تتجاوز أهميتها التاريخية، إذ تمثل كنزًا علميًا يتطلب الحماية والتوثيق لضمان بقائه للأجيال القادمة. وبطبيعة الحال فإن عوامل التآكل الطبيعي والعبث البشري تشكل خطرًا على هذا الإرث الفريد، مما يجعل توثيقه رقميًا ضرورة علمية للحفاظ عليه ودراسته بطرق حديثة. وإن إدراج هذه المواقع ضمن قائمة التراث العالمي قد يسهم في رفع مستوى الوعي بأهميتها وتعزيز جهود الحماية، بحيث تظل هذه النقوش محتفظة بصوتها، شاهدة على التاريخ العريق الذي مرت به المنطقة.
تركز إعادة قراءة النقوش التاريخية من منظور تيار الوعي على إحياء التدفق الحر للأفكار والمشاعر التي ربما عاشها الأفراد الذين وثقوا تلك النقوش. تعتمد هذه التقنية على استحضار ما يمكن أن يكون نحاتو النقوش قد شعروا به أثناء تأدية طقوسهم أو تسجيل تجربتهم على الحجر. يتم توجيه النص ليغوص في الأعماق النفسية والروحية لأولئك الأفراد، مما يتيح تصورًا عميقًا للحظات التي عاشوها. تستلزم إعادة بناء النصوص التركيز على الأفكار الشخصية والروحية التي صاحبت عملية النقش، حيث يُستحضر شعور الشخص وهو يقف أمام المعبد أو مذبح تقديم الأضحية. تُنقل مشاعره المتضاربة بين الرجاء والخوف، وبين التوسل للآلهة والقلق من المصير المجهول، في تدفق غير منظم للأفكار.
تنعكس أصوات المونولوج الداخلي، التي تسرد تأملات الإنسان في لحظة روحية متفردة، فتتحول تلك اللحظة إلى لوحة تعبيرية نابضة بالحياة، تعكس الصراعات الداخلية والروحانية التي مر بها. يتخلل النص انتقال مستمر بين الماضي والحاضر، حيث يستعيد الفرد الذي ينقش الحجر أصوات أجداده وتقاليدهم التي تربط الزمانين معًا. يعيش النقّاش تجربة مزدوجة، تجمع بين اللحظة الآنية التي يسجل فيها تجربته وبين استحضار أثر الماضي العميق عليه.
وتسهم الحجارة السوداء التي تشكل الخلفية الطبيعية لهذه الطقوس في تعميق العلاقة بين الإنسان والطبيعة المحيطة. وتتفاعل عناصر المكان مع النص لتُضفي على النقش بُعدًا زمنيًا وروحيًا متشابكًا، حيث يرى الفرد نفسه جزءًا من نسيج الكون الذي يحيط به. ويعيد النص تصوير التفاعل بين الإنسان والطقوس التي يؤديها عبر تصوير الحركات والأفكار العفوية التي تتولد عند مواجهة المجهول. يتدفق الشعور بالخضوع أمام القوى الروحية، في حين تتشابك التأملات مع أصوات الطبيعة والفراغ المحيط. يتحول النقش من مجرد تسجيل مادي إلى وثيقة حية تحكي تفاصيل دقيقة عن التجربة الإنسانية، وتجسد أعمق لحظات الإنسان أمام المقدس. من خلال استخدام تقنية تيار الوعي، تتحول النقوش إلى نصوص حيوية تُحيي أصوات الماضي، وتسمح للقارئ بالغوص في لحظات الشعور والوجدان التي عاشها من نحتوا تلك الرموز. توثق النقوش بشكل غير مباشر مشاعر الفرد وهو يسجل شهادته على صخور الزمن، مما يمنحها بُعدًا روحيًا وإنسانيًا يتجاوز حدود التاريخ واللغة.
إعادة قراءة النقوش التاريخية من منظور تيار الوعي تمثل مقاربة جديدة تمنح النصوص الحجرية القصيرة عمقًا يتجاوز مجرد وظيفتها التوثيقية. تستند هذه الفكرة إلى أن النقش لا يشكل عملية تسجيل ميكانيكي، ولكنه كان امتدادًا لتجربة شعورية وروحية غنية. تتجسد أهمية هذه المقاربة في قدرتها على التقاط اللحظات النفسية العفوية التي رافقت فعل النقش، مما يسمح بإحياء المشهد بكل ما يحتويه من مشاعر ورؤى وأصوات داخلية. إن هذه التقنية تمنح النقوش القصيرة بُعدًا حيًا، فتتحول الكلمات المحفورة في الحجر إلى تدفق شعوري يعيد بناء التجربة الإنسانية التي أنتجتها، بدلًا من أن تبقى مجرد رموز جامدة من الماضي.
ما يدعو إلى تبني هذه المقاربة هو أن النقوش، رغم اختصارها، تحوي مشاهد كاملة لا يمكن فصلها عن لحظة النقش نفسها. كان من نحتها يعيش تجربة شعورية مكثفة، ربما كانت محفوفة بالخوف أو الرجاء أو الشعور بالخضوع أمام قوى الطبيعة والآلهة. في هذا السياق، يصبح النقش شهادة غير مباشرة على لحظة شعورية متفردة، مما يجعله أكثر من مجرد كتابة على الحجر. إن تحليل هذه اللحظات من خلال تيار الوعي يسمح بإعادة تشكيل السياقات العاطفية التي أُنتجت فيها النصوص، وهو ما يضفي عليها طابعًا أكثر إنسانية، حيث تُقرأ كأصوات حية تستعيد تجربة الماضي بثرائها وتعقيدها.