البشير يكتب: هل الرقمنة الحكومية إصلاح أم تعقيد؟
المهندس عامر البشير
16-03-2025 11:22 AM
التحوّل الرّقمي الحكومي بين تحسين الخدمات وإعادة إنتاج البيروقراطية – نموذج دراسي قطاع العمل البلدي / أمانة عمان الكبرى
يُعَدّ التحوّل الرقمي أداةً جوهرية لتحسين الأداء الحكومي، إذ يهدف إلى تبسيط الإجراءات، وتقليل البيروقراطية، وتعزيز كفاءة الخدمات المقدَّمة للمواطنين. ومع ذلك، أظهرت التجربة العملية أن الرقمنة، بدلاً من أن تكون وسيلةً للتيسير، تحوّلت إلى عقبة إضافية، لا سيما في معاملات التراخيص، وأذونات الإشغال، ورخص المهن، والموافقات المرتبطة بها في أمانة عمان الكبرى. ولم تكن الإشكالية في التحوّل الرقمي ذاته، بل في آليات تنفيذه التي أسهمت في تعقيد العمليات بدلاً من تبسيطها.
يهدف هذا التحليل إلى دراسة تحديات التحوّل الرقمي، واقتراح حلول قائمة على منهجيات علمية تضمن تحقيق الأهداف المرجوة، دون إعادة إنتاج البيروقراطية بأساليب جديدة.
تحليل التحديات
1. تمّ إلغاء المعاملات الورقية قبل ضمان جاهزية النظام الرقمي
أحد أبرز الأخطاء في التحوّل الرقمي هو التسرّع في إلغاء المعاملات اليدوية قبل التأكد من كفاءة النظام الإلكتروني البديل. وكان الأجدر تشغيل النظامين بالتوازي لفترة تجريبية، مما يتيح تقييم الأداء وإجراء التحسينات اللازمة قبل إلغاء النظام الورقي نهائيًّا. غياب الاختبار الشامل أدى إلى أعطال فنية، وإرباك المستخدمين، وتأخير إنجاز المعاملات، مما تسبب في اختناق التدفقات النقدية لصندوق الأمانة، وضياع الفرص الاستثمارية. ويظهر ذلك بوضوح، فبالرغم من ضغط النفقات وتراجع الخدمات البلدية، استمرت طلبات القروض الإضافية نتيجة تراجع الإيرادات.
2. نقل البيروقراطية إلى النظام الرقمي دون إعادة هندسة العمليات
تمّت رقمنة الإجراءات كما هي، دون إعادة تصميمها لتقليل التعقيد. ونتيجة لذلك، لم تُؤدِّ الرقمنة إلى تسريع الإجراءات، بل تحوّلت إلى عائق إضافي أمام المواطنين، المستثمرين، والمكاتب الهندسية. فالتحوّل الرقمي لا يعني مجرد استبدال النماذج الورقية بنماذج إلكترونية، بل يتطلب إعادة هندسة العمليات الإدارية لجعلها أكثر كفاءةً وشفافيةً.
3. تعدّد محطات توقيف المعاملات بسبب اعتبارات التحصيل المالي
اعتمدت الدوائر المالية في أمانة عمان نهجًا يفرض إيقاف المعاملات عند عدة محطات أثناء مسارها في النظام الإلكتروني بحجة تحصيل مستحقات مالية، مثل المسقفات، ضريبة التحسين، عوائد التنظيم، وبدل تعويض عن أراضٍ تقع ضمن حدود الأمانة. إلا أن هذه السياسة أدّت إلى تعطيل المعاملات، مما تسبب في اختناق التدفقات النقدية المفترض أن ترد لصندوق الأمانة، أو أفقد المشاريع جاذبيتها لدى المستثمرين نتيجة البيروقراطية العقيمة تحت مسمى الرقمنة. كما فقد العديد من ملاك المشاريع القائمة فرصة تصويب أوضاعهم الإنشائية. وبدلًا من تحقيق زيادة في الإيرادات، ساهمت هذه التعقيدات في إعاقة التطوير والتنمية، مما أثّر على نوع وكم مشاريع التطوير العقاري، وانعكاس ذلك على الاقتصاد المحلي ومعدلات النموّ. يمكن مقارنة عدد المعاملات المتأثرة أو المتوقفة منذ بدء تطبيق النظام الإلكتروني، أو تلك التي عدل مقدموها عن استكمال إجراءاتها، كما يمكن قياس مستوى رضا المستخدمين عن الأنظمة الرقمية ضمن اليه لا تظهر اسم ومقدم استبيان قياس الرضى في أمانة عمان.
التحديات التي تواجه المستخدمين في التعامل مع الأنظمة الرقمية
يواجه المواطنون عدة صعوبات تؤثر على تجربة المستخدم وتعيق انسيابية الإجراءات، وأبرزها:
1 رفع الوثائق: يواجه المستخدمون أحيانًا رفضًا غير مبرر للملفات، إلى جانب طلبات متكررة لمستندات إضافية رغم عدم اشتراطها مسبقًا.
2 المراجعة والتحقق: تغيب الشفافية حول آلية التدقيق، وتطول مدة الانتظار دون أسباب واضحة.
3 انتظار الموافقات: يعاني المواطنون من تضارب المعايير بين الجهات المختلفة وبين اللجان المحلية واللوائية، إضافة إلى اختلاف إجراءات المعاملات بين مناطق الأمانة، مما يؤدي إلى تأخيرات غير مبررة. ويمكن مقارنة المدة الزمنية لإنجاز المعاملات قبل وبعد الرقمنة.
4 الدفع الإلكتروني واستلام الوثائق: تظهر مشكلات تقنية تمنع تحديث الحالة بعد الدفع، أو تتوقف الإجراءات بسبب قرارات الدائرة المالية، مما يضطر المواطنين إلى المراجعة الشخصية، فيقوّض فعالية الخدمات الإلكترونية ويفرض أعباء إضافية على المستخدمين.
التقييم النقدي للنموذج الحالي
• لم يتم اختبار تجربة المستخدم قبل التطبيق، مما أدى إلى تعقيد الإجراءات بدلاً من تبسيطها.
• بسبب غياب التكامل بين الجهات، استمرت الحاجة إلى المراجعات الشخصية في كل مرحلة وعند كل موظّف جنبًا إلى جنب مع النظام الرقمي، مما جعل الأتمتة شكلية وأفرغها من مضمونها.
• عدم وضوح المسؤوليات داخل النظام الرقمي زاد من الإرباك، حيث لم تُحدَّد الجهة المسؤولة عن كل مرحلة بوضوح.
الحلول المقترحة
1 فرض جدول زمني لإنجاز المعاملات، مع رقابة صارمة وآلية إنذار في حال حدوث تأخير.
2 مبدأ "المراجعة لمرة واحدة"، للحد من التأخيرات الناتجة عن المراجعات المتكررة، مع ضرورة تدريب الموظفين لضمان دقة التقييم الأولي.
3 تحديد المسؤول عن التأخير وربط الأداء الوظيفي بالإنجاز، لتعزيز المساءلة والشفافية ضمن نظام تقييم عادل.
4 تحقيق التكامل بين الجهات المختصة، عبر بنية تحتية تقنية تتيح تبادل البيانات مع الجهات المرتبطة، مثل نقابة المهندسين، الدفاع المدني، ووزارتي الأشغال والبيئة.
5 توحيد متطلبات الوثائق ومنع تكرار التكليف للمعاملات، لضمان وضوح الإجراءات ومنع العشوائية.
6 تعزيز الدعم الفني وإدارة الأخطاء التقنية، لضمان استمرارية عمل النظام بسلاسة، عبر استثمارات مالية وخبرات تقنية متخصصة.
7 تحسين إرسال الإشعارات الإلكترونية، لتوفير تحديثات دقيقة دون إرباك المستخدمين.
8 إلغاء تضارب القرارات بين الجهات المختلفة، عبر إطار قانوني يحدد الصلاحيات ويوحّد المعايير.
9 إعادة هيكلة هندسة العمليات الداخلية، لضمان استدامة التحوّل الرقمي وتجنب مقاومة التغيير أو تضارب المصالح.
10 تدريب الموظفين والمستخدمين، عبر استراتيجيات تحفيزية ودليل توضيحي مدعّم بكروكيات فنية لتسهيل فهم العمليات الرقمية.
التحوّل الرقمي: أداة للإصلاح أم إعادة إنتاج البيروقراطية؟
يُظهر التحليل أن التحوّل الرقمي في شكله الحالي لم يُحقق الكفاءة المرجوة، بل زاد من تعقيد الإجراءات نتيجة سوء التنفيذ. ومن دون إعادة هندسة العمليات لتتوافق مع الرقمنة، سيظل التحوّل الرقمي مجرد امتداد للبيروقراطية التقليدية بأساليب جديدة. لذا، يجب أن يكون الهدف من الرقمنة تحقيق إصلاح إداري جذري وشامل، وليس مجرد استبدال النماذج الورقية بنماذج إلكترونية.
الخاتمة: كيف نحقق تحولًا رقميًا ناجحًا؟
لضمان نجاح التحوّل الرقمي وتحقيق أهدافه، لا بد من تبنّي نهج شامل يقوم على:
1 إعادة تصميم العمليات ورقمنتها لضمان كفاءتها ومرونتها.
2 إلزام جميع الدوائر باستخدام المعايير نفسها للتحقق والمراجعة لتجنب تضارب القرارات.
3 إشراك القطاع الخاص والخبراء التقنيين في تقييم الأنظمة الرقمية لضمان توافقها مع احتياجات المستخدمين.
4 تعزيز الشفافية والمساءلة، لمنع استغلال الثغرات وتعطيل المعاملات.
5 تدريب الموظفين والمستخدمين لضمان التعامل الفعّال مع النظام الرقمي.