عندما تسمو القيم فوق الألم
أ.د سلطان المعاني
15-03-2025 09:59 AM
تجسد قيمة العفو والتسامح صفة من صفات الكرام وأهل المروءة، حيث يكون العفو دليلًا على القوة والشرف والمروءة. فالكريم هو الذي يتجاوز عن الخطأ ويترفع عن الانتقام، لا عن عجز، ولكن عن إيمان بأن التسامح رفعةٌ للنفس وسموٌ للأخلاق، وشيمة من شيم الرجال. ففي سياق الحادثة العشائرية التي وقعت في محافظة الكرك، برهن والد الفقيد على هذه الحقيقة حين اختار العفو رغم فداحة المصاب، مقدمًا درسًا إنسانيًا وأخلاقيًا في كيفية تجاوز الألم بروح التسامح. لقد كان قراره بالإفراج عن الفتاة المتسببة بالحادث تجسيدًا حيًا لهذه الحكمة، إذ لم يُثقل قلبه بالحقد، بل اختار النخوة والشهامة، واضعًا الرحمة فوق الغضب، ليؤكد أن الكرم لا يكون فقط في العطاء، بل في العفو عند المقدرة.
إن هذه القيم ليست غريبة عن المجتمع الأردني، حيث تتجلى في العادات العشائرية التي تجعل من العفو والتسامح جوهر التعامل الإنساني، وخاصة في المواقف الصعبة التي تُختبر فيها معادن الرجال. وكما قال الرسول ﷺ: "ما زاد الله عبدًا بعفو إلا عزًا"، فإن العفو هنا لم يكن مجرد تسامح، بل عز وشرف وتكريم للمروءة والإنسانية، وهي صفات لعمر تليق بالكرك وعشائرها، وجميع الوطن بأقاليمه.
وفي مشهد يفيض بالنبل والمروءة، سطّرت عشيرتا الحباشنة والمعايطة في محافظة الكرك درسًا خالدًا في قيم التسامح والعفو، حين اجتمعتا في مراسم عطوة صلح بعد حادث مأساوي أودى بحياة الشاب عودة الله غازي العساسفة الحباشنة، إثر حادث دهس غير مقصود من قبل فتاة تنتمي إلى عشيرة المعايطة. ورغم فداحة المصاب وقسوة الفقد، تجلت أعظم معاني الشهامة والكرم في موقف والد الفقيد، الذي لم يترك الحزن يُثقل قلبه، بل تسامى فوق الألم، متوجهًا فورًا إلى المركز الأمني ليطلب الإفراج عن الفتاة، قائلاً: "بنات الكرك بناتنا، ما يباتن في السجون".
إن هذا التصرف لم يكن استجابة لحالة إنسانية فقط، وإنما جاء تعبيرًا أصيلًا عن القيم الراسخة في وجدان العشائر الأردنية، حيث يتصدر التسامح والعفو قائمة المبادئ التي تحكم العلاقات الاجتماعية. إن إقدام والد الفقيد على إسقاط حقوقه العشائرية والقانونية، ليجعل العفو عنوانًا لهذه الحادثة، ولم يكن إلا امتدادًا لتقاليد توارثها الأردنيون عبر الأجيال، مفادها أن الشرف الحقيقي لا يكون في الانتقام، وإنما في التسامي فوق الجراح، وجعل المروءة والعفو أسمى من أي نزاع.
وخلال مراسم الصلح، تجلت أسمى معاني اللحمة الوطنية والترابط الاجتماعي، حيث تحدثت الجاهة بكلمات تعبر عن الحكمة والتقدير، وقوبلت بردود ملؤها الشكر والاحترام، فيما عبّر ممثلو الجانبين عن مشاعر العزاء والتقدير لهذا الموقف النبيل. لقد كانت الكلمات والمواقف شاهدة على لحظة تاريخية تسودها الحكمة والاحترام المتبادل، حيث انتصرت قيم العفو والمسامحة على مشاعر الغضب والحزن.
لقد جاء موقف والد الفقيد تجسيدًا لمعاني الرحمة، وتأكيدًا على مكانة المرأة في العشائر الأردنية، حيث تُحاط بالحماية والرعاية حتى في أشد الظروف. فالمرأة في الثقافة العشائرية رمز للشرف والمروءة، ويُنظر إليها بعين الاحترام والتقدير. ومن هنا جاء قراره بالإفراج عن الفتاة، إدراكًا منه بأن الأقدار قد تقع دون قصد، وأن المسؤولية الأخلاقية تحتم حماية المرأة لا تحميلها عبء ما ليس لها فيه يد.
ولقد أثبتت هذه الحادثة أن العفو عند المقدرة هو أرقى صور الكرامة، وأن التسامح قوة، تتجلى حين يكون الإنسان قادرًا على العقاب لكنه يختار الصفح. وهذا هو جوهر القيم العشائرية الأردنية، التي ترى في التسامح شرفًا، وفي العفو رفعة، وفي حماية المرأة واجبًا مقدسًا. إن هذا المشهد لن يكون مجرد ذكرى، بل سيظل درسًا خالدًا في الإنسانية والنخوة والشهامة، ورسالة لكل الأجيال بأن العادات والتقاليد موروث اجتماعي، وقيم راسخة تحمل معاني العدل والرحمة والسمو فوق الجراح.
وكما قال الحكماء قديمًا: "إن أكرم الناس أعظمهم عفوًا"، وفي هذه الحادثة، كان العفو هو سيد الموقف، ليجسد صورة مشرقة عن العشائر الأردنية، التي لا تزال تُعلّم العالم أن التسامح هو أسمى أشكال القوة.