facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




القطايف في رمضان


مصطفى القرنة
12-03-2025 11:13 PM


في ليلة رمضانية كانت الأجواء مشحونة بالأصوات الناعمة والمشاعر العميقة، كأنها تتناغم مع روح الشهر الكريم. كنت أرى أبي جالسًا بالقرب من البابور، وهو يرقب الزيت بعناية، يراقب تحول القطايف من مادة خام إلى طعام شهي يعكس طيبته وحبّه. كان هناك شيءٌ عميقٌ في كل حركة من حركاته، وكل تقليب في الزيت كان بمثابة تعبير صادق عن تفاعله مع اللحظة، مع طقوس الشهر، ومع حبّه لعائلته. كان ذلك ليس مجرد إعداد طعام، بل كان خلق لحظة من السكينة، لحظة من التماهي بين الروح والجسد، بين ما يقدمه الإنسان وبين ما يتلقاه. كانت القطايف، في كل مرة يضعها على المائدة، ليس مجرد طعام، بل هدية مشبعة بالحنان والحب.

أذكر كيف كنت أتشارك في هذا العمل مع أبي، فأقوم بحشو القطايف بالسكر وجوز الهند، أو أحيانًا أضيف جوز عين الجمل. لم يكن الأمر مجرد مشاركة في إنجاز عمل مادي، بل كان في عمقه تواصلاً بين الأجيال. كانت يديّ تلامس يديه، وأفكاره تتسلل إلى أفكاري من خلال هذه اللحظات الصغيرة. كان يعلمني أكثر من مجرد كيفية تحضير القطايف، بل كان يعطيني درسًا في الصبر والإتقان والتفاني. فكل حركة كانت محملةً بمعنى أعمق، وكل قطايف كانت تمثل تكرارًا للأمل والحب، وتذكيرًا بوجود شيء أكبر من اللحظة نفسها.

أما عن زيت السيرج، ذلك العنصر الذي كان أبي يصر عليه في كل مرة، فقد كان يحمل في طياته مفهومًا عميقًا. لم يكن يختار الزيت كخيار عابر، بل كان يعرف تمامًا أن لهذا الزيت خصائصه الخاصة التي تعطي للقطايف مذاقًا لا يمكن تعويضه. وكان هذا إصرار أبي على التفاصيل الصغيرة تعبيرًا عن فلسفة عميقة في الحياة: كل شيء له قيمته الخاصة، وكل تفصيل صغير له مغزى، مهما بدا بسيطًا. إن تأكيده على استخدام الزيت المناسب لم يكن مجرد قرارًا تقنيًا، بل كان قرارًا يحمل خلفه مفهوم الجمال في التحديد والدقة.

نحن، كأبناء، كنا نحيط به، نراقب بعين الفضول والدهشة كيف يبدع في تشكيل هذه اللحظات، كيف يخلّف وراءه طبقًا ليس فقط ممتلئًا بالطعام، بل ممتلئًا أيضًا بالذكريات. كان كل منا يتسلل حوله، كلنا ننتظر بفارغ الصبر تلك اللحظة التي سيتم فيها تناول القطايف، كما لو أن الفرح لا يأتي إلا مع أول قضمة. كان ذلك يبعث في نفوسنا شعورًا غامرًا، كما لو أن القطايف تمثل أكثر من مجرد طعام؛ كانت تمثل الراحة، والسكينة، والمشاركة.

لقد كان لهذه اللحظات سحر خاص، لا ينكشف إلا عند التأمل في عمقها. كانت تجسد حالة من الانسجام بين الإنسان والزمان والمكان. كانت القطايف، في كل لحظة من لحظات تحضيرها، تصبح أكثر من مجرد طعام مادي. كانت تجربة حسية وروحية. كنت أراها وكأنها تمثل الزمن ذاته، متجسدًا في شكلٍ حلو، وفي لحظةٍ متجددة في كل عام. كانت تمثل دورة الحياة، حيث تتكرر فيها التجارب والمشاعر، ولكن كل مرة تأخذ شكلًا جديدًا، وتعطي طعمًا جديدًا.

في تلك اللحظات التي كنا فيها نتجاذب أطراف الحديث حول المائدة، كان الزمن يبدو وكأنه يتوقف. كان العالم يتسع لنا، كما لو أن تلك القطايف هي الرابط الذي يجمعنا، ويربطنا بكل ما هو جميل في هذا الشهر المبارك. كانت تلك اللحظات تسحبنا بعيدًا عن الضغوط اليومية، وتوحدنا في هدف واحد: أن نعيش بسلام داخلي، أن نتذوق فرح الحياة بكل تفاصيلها الصغيرة. وفي كل لحظة، كنت أشعر بأنني جزء من هذه التجربة الإنسانية الواسعة، جزء من تلك اللحظات التي تجعلنا نعيد تعريف أنفسنا، ونعرف أكثر عن ما نريد أن نكونه.

ثم يأتي يوم آخر، وأنت تسير في السوق، وتقف أمام بسطات القطايف الذهبية التي تغري العين وتشد الروح. تشعر بشغف عميق، وكأنك ترى قطعة من ماضيك تلوح أمامك. تشتري حبة أو حبتين، وتجد نفسك تتطلع إلى تلك اللحظة التي سيتجمع فيها الناس لأداء صلاة التراويح. في تلك اللحظات، تختلط الذكريات مع الواقع، وتتداخل الفترات الزمنية. كانت تلك اللحظات في حياتي، مثل شعور الفرح الذي ينبع من عمق الروح، مثل دعاء يحمل في طياته أملًا مستمرًا، لا يتوقف.

وما تلبث تلك اللحظات أن تصبح جزءًا من حياةٍ أكبر، حياة لا تقتصر على مجرد الأفعال اليومية، بل تشمل في طياتها التفكر في أعمق معاني الوجود. كانت هذه هي الرسالة التي كان أبي يرسلها لي كل يوم عبر تلك اللحظات البسيطة. أن الحياة هي في التفاصيل الصغيرة، في الحب الذي يُصَبُّ في العمل، وفي المعنى الذي نضفيه على كل لحظة. وفي النهاية، كانت القطايف أكثر من مجرد طعام: كانت إشارات رمزية لوجودنا، وذكريات عميقة لا تمحى.

وفي قلب هذه اللحظات، يدرك المرء أن الحياة ليست مجرد تجارب عابرة، بل هي مجموعة من المشاعر العميقة التي تترسخ في الذاكرة.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :