طاهر المصري على كرسي اعتراف "اللويبدة" ..
18-08-2007 03:00 AM
عمون - في اطار الاتفاق بين "اللويبدة" المجلة الاردنية الانيقة التي يرأسها الزميل باسم سكجها و"عمون" على انتقاء مجموعة من اللقاءات التي تجريها المطبوعة مع شخصيات وطنية ذات ثقل سياسي كبير ، تنشر "عمون" مقابلة مع رئيس الوزراء الاردني الاسبق طاهر المصري اجراها للمجلة الزميل ناصر قمش ، واشتملت على نقاط مهمة في حياة المصري وكشفت عن سلسلة قضايا لها علاقة بتاريخه وحاضره .. وفيمايلي نص المقابلة التي قدم لها رئيس التحرير الزميل سكجها : تقديم رئيس التحرير
في مساء يوم صيفي من العام 1997 ، كنّا إلى جانب طاهر المصري في سيّارته الخاصة، خالد محادين وأنا، ندخل إلى الكرك، الخارجة لتوّها من أحداث الخبز، لنجد أنّ البيت الكبير لمضيفنا الدكتور نزيه عمارين نائب المدينة، يضيق بعشرات الكركيين من كافة العائلات.
وتبادل الموجودون الكلمات، وإستمعت إلى كركي حبيب يدعو أبا نشأت إلى خوض الإنتخابات النيابية عن مدينته القلعة، فتذكّرت كيف فاز يعقوب زيادين، إبن الكرك في انتخابات 1956 بمقعد القدس المسيحي.
وبعدها بأسبوع، كان صديق من عشيرة الماضي العزيزة في اقصى البادية الشمالية في الدفيانة، يلحّ علي للتوسّط لإستضافة طاهر المصري، فشباب القرية يودّون التعرف عليه، والتضامن معه، في رؤيته المخلصة للوحدة الوطنية، وهذا ما كان..
كان المصري، قبل ذلك بوقت قصير، ألقى محاضرة في المركز الثقافي الملكي، تبعها هجوم مركّز عليه، من إقليميين على جانبي النهر، وكتبت المقالات وألقيت المحاضرات، لكنّ قراءة الرجل للوحدة الوطنية الحقيقية، كانت تجد قبولها لدى الناس العاديين، باعتبارها تنطلق من رؤية مخلصة بعيدة عن مصلحة شخصية هنا او هناك..
وفي حقيقة الامر، فان لدينا قراءتين قد تصلان الى حد التناقض في مسألة الوحدة الوطنية، وينطلق أصحابهما من الشعار الكبير الذي يحمل شكل الجمع، لكنّه يذهب إلى مضمون الفرقة، (فالحقوق الضائعة) تقابلها (حقوق منقوصة)، والعودة الى (الاصول) تقابلها عودة الى (الفصول)، والإستغراق المتبادل في طريقة فهم الماضي، وتفسيره، لا يحمل إلا التباين، ويقترب من جدل أهل بيزنطة حول جنس الملائكة.
وهناك القراءة الثالثة..
تلك التي يمارسها اصحابها على ارض الواقع ومنهم طاهر المصري، وهي التي تنطلق من أنّ الماضي كان مشتركاً على الدوام، وان المستقبل لا يمكن إلا أن يكون مشتركاً، وأن الوحدة الاردنية الفلسطينية كانت الردّ الوحيد على تقسيمات سايكس بيكو..
وهي القراءة الثالثة التي لا ترى في الماضي الا عبرة للمستقبل ولا تريد من الواقع الحالي الا ان يكون التأسيس للغد المشترك، وهذا لا يأتي الا بالعمل على خلق أردن العدل والمساواة وتكافؤ الفرص.. وفلسطين الدولة المستقلة
ونعود الى ابي نشأت فنراه اردنيا بين الفلسطينيين وفلسطينيا بين الاردنيين، وبين هذا وذاك هو احد اصحاب القراءة الثالثة، التي لا تعترف الا بمستقبل واحد لكل الاردنيين، شرق النهر.. ولا ترى الا الوحدة الطبيعية التي خلقها الله بين شرق النهر وغربيه.
اما الداعون الى الفرقة من الجانبين، فلهم دينهم ومصالحهم ولنا دين ووطن وشعب واحد..
بقلم ناصر قمش
ما الذي ستضيفه مقابلة صحفية مع طاهر المصري، بعد مضي 16 عاما على تركه للوزارة؟ هذا هو السؤال الأبرز، الذي جال في خاطري، وأنا أتصفّح مواقع البحث الالكترونية، عن صاحب الإسم الذي كلفه جلالة الملك بتأليف الوزارة للمرة الأولى يوم 19 حزيران 1991وسط ظروف سياسية تاريخية، لازالت آثارها وتداعياتها تظلّل المشهد السياسي المحلي، ذلك أن ”نقرة “ واحدة على الكمبيوتر، ستظهر أكثر من ألف موقع للبحث، عن هذه الشخصية، التي مازالت تحتل مساحات واسعة من الجدل
وهذه المواقع تظهر أن مئات المقابلات والتصريحات، اجراها المصري، وعدد مقابل من المقالات، التي كتبت عنه، وتعكس تنوّع نشاطاته وخبراته، وعلاقاته في مختلف الحقول والميادين،
في نسبه لعائلة تعتبر من سنديانات نابلس من جهة الأب، ونسبه أيضاً، إلى ما زاده عليه من عراقة عربية، حيث امه التي تنتمي إلى عائلة الصلح اللبنانية، يختزل المصري تجربة سياسية ضاربة في الفرادة .
فلا تكتمل حلقات التنوع دون الوقوف على أعتابها، ذلك أنّ تراثه السياسي وخبراته، وثقافته، مكنه من إمتلاك برنامج وطني متكامل، تمّ إختباره عند أعنف المحكات ، وأكثرها دقة في النتائج..
فحكومة المصري، لم تكن مجرد عود ثقاب، لكنّها أنارت، بما أقدمت عليه، آفاقاً ديموقراطية وحضارية ، ينبغي التوقف عندها، واعادة قراءتها من جديد.
المصري لم يفضّ إشتباكه اليومي مع السياسة، وهو في الوقت الذي يعلن تمسّكه ببرنامجه الإصلاحي، إلا أنّه يقول كلاماً قد يبدو جديداً، اليوم، ولكنّه جزء من نمط تفكيره المتقدّم، فيتفهّم الإجراءات والإعتبارات الأمنية، بسبب ظروف المنطقة،
على مدار أكثر من ساعات ظويلة، قضتها “اللويبدة” في دارته في عبدون، ومكتبه العمّاني العريق في عمّان الجبل، فاضت صراحة المصري، حول مختلف القضايا، ولكلّ شيء وقته، ونحن ننشر ما جاء وقته، ونؤجّل ما دونه ، وفي كلّ الحال، حاولنا تقديم مادة جديدة لمواقع البحث الالكترونية.
س : النشأة بدأت في نابلس، وسط عائلة ثريّة، ومعروفة، ما الذي يتذكّره طاهر المصري من تلك الأيام، وكيف أثّرت في مسيرة حياته، التنقّل والإستقرار؟
ج : أنا من مواليد عام 1942 ، أي أثناء الحرب العالمية الثانية، وذلك بالتزامن مع ظروف صعبة يمرّ بها العالم، وكذلك فقد كانت الهجرة اليهودية إلى فلسطين في أوجها، وقد أحدث ذلك ظلالاً سياسية كبيرة على المنطقة بشكل عام، وفلسطين بالذات، خصوصاً فيما يتعلّق بدور الإنتداب البريطاني، لتسهيل هجرة اليهود وتوطينهم .
أيضاً، أنا نشأت وسط عائلة ثريّة، بمعايير ذلك الزمن، وميسورة الحال بمعايير هذا الزمن، مما ولّد عندي إستقراراً نفسياً وإجتماعياً وعاطفياً تمثّل بشعوري بالأمان، الذي إستمر معي في حياتي، ولكنّني، ولأول مرّة خالجني الشعور بعدم الإستقرار، في العام 1967 عندما تمّ إحتلال الضفة الغربية.
كنت وقتها في عمّان، أعمل في البنك المركزي، فيما كانت عائلتي وأقاربي وكلّ أملاكنا هناك، فشعرت بأنني أصبحت وحيداً، ومن واجبي الإعتماد على نفسي، وخفت من المستقبل، لكنّ الوضع الآمن عاد إلينا بعد عدة سنوات، وهذا المنعطف جعلني أفكّر ملياً بشخصيتي، ومستقبلي، تحسّباً من الوقوع في مصائر العائلات التي تدمّرت، وتبخّرت ثروتها، فبدأت العمل على بناء شخصيتي، وتهيئة نفسي للبقاء ومواجهة أي ظروف محتملة في المستقبل، والحمد لله ساعدني الحظ والظروف بأنني تبوأت مركزاً وزارياً في حكومة زيد الرفاعي، وبدأ الإنطلاق الحقيقي لي في حياتي السياسية .
س : هل أصبحت وزيراً وعمرك 31 عاما؟
ج : نعم، قبل ذلك بأيام معدودة، أصبحت نائباً في البرلمان عن قضاء نابلس، واستمر التزامن بين منصب الوزارة والنيابة لفترة من الزمن.
س : لنعد إلى الطفولة، فنحن لا نريد حرق المراحل ؟
ج: نابلس مدينة عريقة وقديمة، فيها صراعات عائلية واضحة، مثلها مثل كل المدن والحواضر، ورغم ظروف الحرب، إلا أن هذه الصراعات كانت جزءاً أساسياً في مشهد الخارطة الإجتماعية، حتى عندما ظهرت بوادر ضياع فلسطين، فإنّ ذلك لم يتغلّب على هذه التحزّبات، وللأسف الشديد، فإنني لا زال أشاهد هذه المظاهر تتكرّر على الأراضي الفلسطينية. ولكن، يجب القول إنّ كل جيلي تأثر لنكبة 48 وما عكسته على مدينة نابلس، وعلى عائلتنا، وعلى المنطقة أيضاً، بحيث تدفّق اللاجئون، فسكنوا في الجوامع، وتعطّلت المدارس لسنة كاملة .
وبدأت التركيبة الإجتماعية لمدينة قديمة، وعريقة، مثل نابلس، تختلف شيئاً فشيئاً، بحيث دخل على المدينة أناس ليسوا من أهلها التقليديين، وبقيت المخيمات حول المدينة، ثم جاءت ثورة عبد الناصر 23 يوليو لتدفع بالمفهوم القومي إلى الأمام، وتبعها تأميم قناة السويس، والعدوان الثلاثي، بمعنى أنني نشأت وجيلي في ظروف قومية واضحة المعالم، وهذا ليس وضعي لوحدي، وإنما هو وضع كل أبناء جيلي . كل هذه المفاهيم تأصّلت في داخلي، دون مراعاة الزمن والتطوّرات الداخلية والخارجية وتأثيراتها، ذلك أنّه يجب أن لا يبقى الإنسان جامداً في تفكيره.
س : من أين جاء ثراء عائلة المصري ؟
ج : من التجارة، نحن عائلة قديمة في نابلس، وبدأ رجالها في التجارة منذ زمن بعيد، ومن بينهم جدّي طاهر، الذي انشأ شركة، وكانت له أفكار رائدة، فمثلاً بنى مطحنة في نابلس، ولم يكن لها مثيل في جميع أرجاء المنطقة، رغم أنها منطقة مليئة بالحبوب، إلا أنه لم يكن هنالك مطحنة، وكذلك، فإنه بنى مصنعاً للكبريت وتم إستيراده في الثلاثينيات من ألمانيا، أي أنه كانت هنالك مشاريع صناعية منذ الثلاثينيات بسبب هذه الأفكار المميّزة .
أما بالنسبة للتجارة، فقد إشتغل جدّي بالحبوب والأغنام وإمتلكت العائلة مصبنة. كان رائداً في تفكيره، إلى درجة أنه أرسل إبنه حكمت، في ذلك الوقت، والذي أصبح فيما بعد رئيساً لمجلس النواب الأردني، إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، منذ منتصف العشرينات، وتخرّج سنة 28، وهو من أوائل الجامعيين الذين تخرّجوا في نابلس وفلسطين .
إذن، الثروة لم تأت فجأة، بل تمّ بناؤها تدريجياً، وإذا أردت تقييمها بمعايير هذا الزمن فهي ليست ثروة، بينما في ذلك الوقت يمكن إعتبارها كذلك. في ذلك الوقت، الناس كانوا متساوين، لا يوجد أغنياء أغنياء، ولا فقراء فقراء، فغالبية الناس ضمن الطبقة المتوسطة، ويعيشون مثل بعضهم البعض، مع وجود بعض الفوارق البسيطة. كانت الحياة أسهل من هذه الأيام.
س : يقال إن الثروة كانت بسبب ورقة يانصيب؟
ج: لم يكن الحاج طاهر هو الذي ربحها، ولكنّ إبن عمنا، هو الحاج معزوز المصري، الذي يعتبر أيضاً من أثرياء العائلة، أصلاً، والورقة زادت ثروته، ولم تكن الأساس فيها.
س: حصلت على رخصة سواقة، في سنّ مبكّرة، وذلك إستثناء من التعليمات والأنظمة، التي تحدّد الثامنة عشرة للرخصة، ما هي القصّة، ولماذا إضطررت لقيادة سيارة العائلة بنفسك ؟
ج : حصلت فعلاً على رخصة القيادة وعمري 16 سنة، والسبب يعود إلى أن والدي حُكم عليه لسبب سياسي بالسجن، وبحكم أنني كبير العائلة بين 11 أخاً وأختاً، وكانت لدينا سيارة أمريكية ضخمة، ولا بد من أن يُرسل أحدنا الطعام لوالدي في السجن، لذلك تولّيت هذه المهمة، وواظبت بشكل يومي على قيادة السيارة وإرسال الإفطار له .
المسؤولون الحكوميون، في ذلك الوقت، أظهروا قدراً من التعاطف مع قضية والدي، خصوصاً مدير السير (عزيز أيوب) الذي سمح لي بحمل الرخصة تجاوزاً وعمري 16 عاما، وبالرغم ذلك، فأنني تقدّمت للإمتحان، وإجتزته بنجاح .
......هنا أبرز رخصة القيادة، ليؤكد أن تاريخ إصدارها 20 ? 9 - 58 ، ومن ثمّ إسترسل بالقول: كما ترى فإنّني من مواليد 5 -3- -43 مما يعني أني حصلت على رخصة القيادة وعمري أقل من 18 عاماً.
س : كم بقي والدك مسجونا ؟
ج : تعدّدت الأحكام ضد والدي، وفي المرّة الأولى حُكم لمدة ثلاثة أشهر، وثمّ نفي إلى سجن الجفر 3 أشهر أخرى، إلى أن أعيد توقيفه في البيت، بإقامة جبرية لمدة 6 أشهر ؟
س: كيف أثّر هذا الأمر عليك ؟
ج : حتماً، هذه من الأمور التي أثّرت علي بشكل كبير، لأنّ الظلم الذي وقع على والدي كان شديداً، والحكم العرفي كان أشدّ قساوة على والدي، وعلى عمّي حكمت، لأنه أيضاً وُضع تحت الإقامة الجبرية، وهو عضو مجلس النواب الأردني .فنحن أصدقاء للعائلة المالكة، والملك عبد الله الأول كان قريباً جداً، وصديقاً للعائلة، خصوصاً لعمّي معزوز الذي إستضافه في منزله عدة مرات للمبيت. ولنا ذكريات كأطفال، وكعائلة، عميقة جداً معه. لهذا،جاء هذا التعسف العرفي ضدّنا بدون مبرر، ولكنّ هذه الأمور أصبحت من التاريخ الآن!
س: ما هي حكاية تبرع جدّكم طاهر لإنشاء مدرسة النجاح قبل أن تتحوّل إلى جامعة؟
ذكر البستاني أن جدّي المرحوم طاهر المصري أوعز إلى إبنه المرحوم (عمّي المرحوم حكمت) بالتبرع بخمسمائة جنيه، خلال حفل إنشاء المدرسة، فأثنى الشاعر على هذا التبرع بقوله:
للطاهر المصري درّ الكلام ما قاله “ حكمت “ مسك الختام
جاد الفتى والجود من طبعه فسار في الموكب جيش الكرام
فأعلن جدّي طاهر المصري عن التبرّع بمائة جنيه لكل بيت من البيتين، ثم إنهالت التبرّعات، فبلغ مجموع ما قُدِّم خمسة آلاف جنيه؟ وهكذا تأسست المدرسة.
س : هنالك بعد مالي جديد، ونفوذ إقتصادي لعائلة المصري، تجسّدت في مشروعات صبيح المصري، الذي يعتبر من أكبر المستثمرين، هل أنتم كعائلة، جزء من هذه الشراكة، أم أنها إستثمارات فردية ؟
ج : وضع العائلة تشعّب، وتغيّر، فبعد أن كان عنوان العائلة الحاج معزوز والحاج طاهر، ومع فتح باب الخليج للعمل هنالك، توزّعت العائلة، مثلما توزّع العديد من العائلات بين الأردن وفلسطين ومنطقة الخليج، وعمّي صبيح واحد من هؤلاء الذين توجّهوا للسعودية، في وقت مبكر، فأنشأ مصالحه هناك، ونجح، وهذه بالطبع شركاته الخاصة، وليست للعائلة، بذلك المفهوم القديم الذي تحدّثنا عنه.
لكن صبيح المصري محسن كبير، ويقدم ملايين الدنانير كمساعدات في فلسطين، والأردن، وأماكن أخرى، فيستفيد من إحسانه آلاف الناس، وإذا كنت ستنظر لها من زاوية، أنه يساعد بعض أفراد العائلة المحتاجين، أو يساهم في الإنفاق على ديون العائلة فهذا حاصل، وهنالك أفراد آخرون من بيت المصري كوّنوا ثرواتهم كعائلات مستقلة. ولكنها ليست إستثمارات لعائلة المصري بالمعنى التكافلي، فلا يوجد بنك للعائلة، أو شركة تأمين لها.
س : بداية الإنفتاح على العالم، والخروج من أجواء نابلس، هل كانت مع الدراسة في الجامعة الأمريكية ؟
ج : باعتبار أنّ أمّي لبنانية من عائلة الصلح، ولأن والدي ميسور الحال، كنّا نسافر بإستمرار، وليس جديداً عليّ الخروج من أجواء نابلس، ولكن بالمفهوم الذي تقصده نعم، أنا خرجت من نابلس وعمري 17 سنة، عندما ذهبت إلى الجامعة الأمريكية في بيروت، لأدرس، وإنتقلت من محيط نابلس للمرة الأولى خارج سياق الإجازات والزيارات، بل كإقامة دائمة. ما قصدته أنني لم أنتقل فجأة من محيط نابلس إلى محيط بيروت المنفتح، وأريد أن اعترف لك أنني لم أكن راغباً في الذهاب إلى بيروت، لأنني الأخ الأكبر، وأحسست أنّ والدي يريد أن أكون قريباً منه، فبقيت لصيقاً بمحيط نابلس، لإعتبارات أبوية بحتة، فتعمّدت عدم التركيز على دراستي في الجامعة الأمريكية، وطلبت من والدي السماح لي بترك بيروت، ولكن والدي أصر على دراستي، فعُدت أدراجي إليها، رغماً عنّي، إلى أن تمكّنت في السنة التالية من الذهاب إلى أميركا، وأكملت دراستي هناك، وبعد حوالي أسبوع من تخرجي، عدت لأعمل في البنك المركزي، ومن هناك بدأت حياتي العملية؟
س :ما الفرق الذي وجدته بين نابلس وبيروت في ذلك الزمن ؟
ج : حتما كان هناك فجوه حقيقية بين المدينتين من ناحية ثقافية ومعيشية. أولاً : في نابلس، كنت تحت مظلة وجناح العائلة، بالذات والدي في ذلك الوقت . وفي بيروت أصبحت طالباً مستقلاً يتطلع إلى مستقبله. ثانيا : نابلس مدينة محافظة بشكل كبير، وبيروت مدينة منفتحة، فيها تعددية في الحياة الاجتماعية. ثالثاً: هنالك تعددية سياسية في بيروت أكثر، ففي عام الخمسينيات كان توهّج حزب البعث والمد الحزبي والقومية العربية، وكان هناك نشاطات كثيرة جداً ومركزها الجامعة الامريكية، والتضارب بين الفئات اللبنانية المحافظة، مقابل نشاطات اللبنانين بشكل عام .
وأهمّ شئ بالنسب لي، في الجامعة الاميركية، فقد إنفتحت على معرفة وثقافة متميز، بحيث أن الصف الأول هو سنة تحضير ثقافة باللغة الانجليزية، ندرس خلالها عيون الأدب الغربي، ومختلف العلوم . وهذا بالطبع يمثل نقله نوعية عن نابلس.
س : مالذي جمع بين والدكم، إبن نابلس والدتكم اللبنانية؟
ج: الزواج كان تقليدياً، مثل عادة أيام زمان، ذلك انه كان لوالدي له ثمان أخوات، بدأن يفتّشن له عن عروس في أنحاء فلسطين.والمعروف ان والدتي أصلها من مدينة صيدا اللبنانية من عائلة الصلح، فقد تمّ إنتداب والدي أيام الحكم العثماني كقاضي في يافا، وهناك بدأت قصة الزواج، عندما ذهبت عماتي إلى يافا، واعجبتهن أمّي، ولم يكن متاحاً إجتماعياً أن يقابلها ويراها، فقام والدي بالتنكر في زي سائق، وقاد السيارة التي أقلّت أخواته، وذلك للتمكّن من رؤيتها، لكي لا يتعرف عليه أهل العروس، لانّه لم يكن مسموحاً له بذلك، بسب عادات وتقاليد تلك الايام، وعندما رآها وافق وتزوجوا سنة 1941.
س: وهل تزوجت أنت بنفس الطريقة ؟
ج: لقد تعرفت على زوجتي ضمن محيط محافظ، طبعاً، لكن بطريق مختلفة، واللقاء كان بالصدفة، في بيت أحد الأقارب، وبقيت لفترة أراها ضمن جو عائلتها (البيطار)، وهم عائله كركيّة، مقيمة في عمان، ثم إتّفقنا على الزواج، بعد ان أخبرت والدي، فجاؤا من نابلس، ووافق، وصار النصيب.
س :ماذا تعني الزوجة لطاهر المصري ؟
ج:مضى على زواجي أربعون عاماً، فالزوجة رفيقة، وفي بعض الأحيان هي مستشارة، فهي تُشرف على البيت وتربية الأولاد.وباعتبار أن لي وضعاً سياسياً معيناً، فهي مكمّلة لجوانب معينة لشخصي، ومكمّلة لبعض نشاطاتي، خاصة في الجانب الاجتماعي، الذي يشكّل أهمية كبيرة بالنسبة لي. وبحكم خلفيتنا العلمية والثقافية المشتركة فزوجتي هي شريكه حقيقة.
س : الوضع الإقتصادي المميّز لعائلة المصري في نابلس، هل كانت له تعبيرات إجتماعية وسياسية، تمثّلت في التمتّع بالنفوذ داخل المجتمع الفلسطيني؟
ج: الزعامة السياسية لها مقوّمات عديدة، لا تتعلّق فقط في المال، خصوصاً في ذلك الوقت، لأنه كان هناك نقاء وصفاء في التعامل أكثر مما نشهده الآن، فالزعامة إرتبطت بعناصر عديدة، منها: حجم العائلة، والموقف السياسي، والإرث التاريخي كعائلة مترسّخة في نابلس، منها أيضا موضوع الثروة، وهذه تحصّلت كلها لعائلة المصري، لذلك فإن انتخابات نيابية منذ 1948 لم تخرج عن معادلة فوز ممثلي العائلة. حكمت المصري، وهو من زعماء نابلس، فاز في إنتخابات الوحدة مع الضفة، وفي نشاطات سياسية عديدة، وإستمرّ هذا التمثيل في الأردن بمشاركته في أوّل حكومة في عهد المرحوم الملك حسين، والتي شكلها فوزي الملقي، ثم تمّ تعيينه رئيساً لمجلس النواب، وهكذا . الوضع المالي الذي يجلب وضعاً اجتماعياً، حتماً كان له دور.
س :لماذا تم اغتيال عمّكم ظافر المصري بتقديركم؟
ج : لقد تربيت أنا وظافر مع بعضنا البعض، فهو من عُمري تماماً، ودرسنا معاً في مدرسة النجاح إبتداء من الصف الأول حتى ذهبنا للجامعة الأمريكية، فهو رفيق العمر، بالإضافة إلى أنه عمّي أخ والدي، فهو أيضاً أصغر أبناء الحاج طاهر المصري، لذلك كنت بعمره. عندما عاد من بيروت إلى نابلس.
المرحوم ظافر، وفي مرحلة معيّنة، أخذ موقعه في إدارة الشركة، وبعد أن حقّق نجاحاً كبيراً، أصبح محبوباً جداً، وقريباً من منظمة التحرير الفلسطينية، وقريباً من الأردن بسبب وسطيّته.في ذلك الوقت، بدأت الإنتخابات البلدية، وسط أجواء سياسيّة محمومة، الحكومة الأردنية سعت خلالها لإحلال رؤساء بلديات فلسطينيين، لكي لا تُبقى هذه البلديات بأيدي الإحتلال الإسرائيلي، خصوصاً، وأن ضابطاً إسرائيلياً شغل منصب رئيس بلدية نابلس في ذلك الوقت، وتمّ التوافق بين الحكومة الأردنية بشكل غير معلن وبين منظمة التحرير على السماح لشخصيات محترمة، لان تأخذ مواقعها في البلديات، وفي ظلّ إجماع على تولي ظافر لرئاسة البلدية، سعيت كوزير للخارجية، في حكومة زيد الرفاعي على الحصول على الموافقات اللازمة، إلى أن تمّ تنصيبه رئيساً للبلدية، ولكن مجرماً غدّاراً، من الجبهة الشعبية، ترصّد له، وإغتاله عقب تعيينه، وكانت له أكبر جنازة في نابلس، وعمّ حزن عميق في الضفّتين الغربية والشرقية، بسبب هذا الحادث الأليم.
س: الكثيرون يتوقفون عند محطة رئاسة الوزراء في مسيرتكم، بإعتبارها الأرفع شأناً، ولكنّنا نحبّ أن نتوقف قبلها، عند وزارة الخارجية، بوصفكم من أبرز من حملوا الحقيبة ؟
ج : توليت وزارة الخارجية ما مجموعه خمس سنوات ونصف السنة، وهي أطول خدمة لوزير خارجية، وكنت كذلك أصغر وزير خارجية حتى هذه اللحظة. تلك الحقيبة كانت مريحة، لأنّ وضع الأردن السياسي كان مريحاً، وعلاقاته مع الدول العربية ممتازة، وتفاهماتنا مع منظمة التحرير جيدة، وفي تلك الفترة عُقد الإتّفاق الأردني الفلسطيني المشهور في شباط 85 ، وعقد المجلس الوطني الفلسطيني الخامس عشر بعد الخروج الفلسطيني من لبنان في عمّآن.
تلك المرحلة أيضاً مثّلت أوج التعامل الإيجابي مع الأوروبيين، وكان جهد الملك في ذلك الوقت كبيراً، وتأثيره مهماً في تغيير مواقف الاتحاد الأوروبي الناشئ تجاه القضية الفلسطينية، وبداية تعاملهم مع منظمة التحرير، وأيضاً هذا إرتبط بمحاولة ترويج منظمة التحرير أمام الولايات المتحدة الأميركية، كمقدّمة لبناء المؤتمر الدولي، الذي كان عنوان السياسة الأردنية، ونجحنا إلى حد كبير .
أما الفترة الأخرى، كوزير خارجية، فكانت بعد غزو الكويت، وكانت فترة صعبة جداً للأردن، بسبب الحصار الذي تعرّض له، نظراً لموقفه من موضوع غزو الكويت، والتعامل مع التحالف ضدّ العراق، فدفع الأردن ثمناً صعباً، ولكن هذه الفترة مثّلت مفصلاً تاريخياً، لأنّ جورج بوش الأوّل أطلق مشروعه للمفاوضات مباشرة حول الشرق الأوسط، ولم يكن ممكناً، لأي طرف، بمن فيهم الولايات المتحدة الأميركية، تجاوز الدور الأردني، فبدأ التعامل مع الأردن مرة أخرى، إلى أن تمّ تكليفي برئاسة الوزراء، وذهبنا إلى مدريد، ودارت عجلة المفاوضات .
س : كنت وزيراً للخارجية عند إصدار قرار فك الارتباط . ما هو موقفك منه ؟
ج: كنت ضد فك الارتباط، لإعتبارات كثيرة، وإستقلت من الحكومة، ولم يكن لي أدنى علم بهذا القرار. ما كنت أعرفه أن الإنتفاضة الفلسطينية، التي بدأت عام 87 ، كانت تؤرق الحكم في الأردن خوفاً من حدوث تداعيات داخلية، في ظل مصاعب إقتصادية جمّة تواجه الإقتصاد الأردني، كلّ ذلك وسط خذلان عربي في تلك الأشهر العصيبة .
س: شاركتم بفاعلية في صياغة بنود بنود الميثاق الوطني، هل تعتقدون بأن جميع الأطراف المكونة له إلتزمت بما تعاقدت عليه؟
ج: أولا، مفهومي للميثاق الوطني أنه وثيقة إصلاحية ومبدئية مهمة جداً، ويجب أن تمثّل قاعدة مهمة للحكم والحكومات في الأردن لتأخذها بعين الإعتبار.
ثانياً، فهمت من الميثاق الوطني بأنه مصالحة تاريخية بين القوى السياسية، والنظام السياسي في الأردن، بسبب التباعدات والخلافات، فتمثّلت كلّ التيارات السياسية في ذلك الميثاق، إبتداء من الحزب الشيوعي إلى الإخوان المسلمين، وخرج الجميع بتوافق وطني رائع، وكنا نتمنى أن مثل هذه الوثيقة يتمّ التعامل معها، بحيث يتمّ بناء المفاهيم السياسية على أساسها، لكن للأسف لم يتم ذلك .
س: هل تفاجأتم بالطلب إليكم تشكيل الحكومة، أم أن الظروف السياسية في ذلك الوقت كانت تؤشّر إلى أنها تحصيل حاصل ؟
ج : بصراحة، نعم تفاجأت... لقد دخلت في التعديل الوزاري على حكومة مضر بدران في 1-1-1991 مع خمسة وزراء من الأخوان المسلمين في الحكومة، ولم أكن أرغب بالمشاركة في تلك الحكومة، لأنّني كنت مرتاحاً في البرلمان في ذلك الوقت. وحدثت، في تلك الفترة، ظروف سياسية بالغة الأهمية بالنسبة لمستقبل الأردن، بعد إخراج العراق من الكويت، والتشتّت والإنقسام العربي العميق الذي نتج عن غزو الكويت، وغياب الإتحاد السوفياتي، وإنهياره. الأردن تحوّل إلى بلد محاصر بشكل حقيقي، والوضع السياسي كان مقلقاً جداً على المستقبل، فبدأنا بفك الحصار، والتعامل مع المستجدّات، والحقائق الجديدة في العالم، والساحة، وهي مهمّة خطيرة، وصعبة.كنت أوّل من زار إيران، بعد قطيعة طويلة، حتى نُعيد الخيوط التي حُرمنا منها سابقاً، أما بالنسبة لوزير الخارجية الأميركي وقتذاك، جيمس بيكر الذي زار المنطقة، ورفض زيارة الأردن إحتجاجاً على موقفه السياسي، فذهبت وقابلته في جنيف.
وهكذا بدأنا نحلحل القيود المفروضة على الأردن، فزارنا، فيما بعد، بيكر، وإتفق مع جلالة الملك على بعض الأمور، وبدأت الولايات المتحدة ببناء هيكلة مؤتمر مدريد، وعند بدأ الملك بفكفكة الحصار، أدركنا ضرورة الدخول في المعادلة الإقليمية. في ظلّ هذه الظروف، كلّفني جلالة الملك رحمه الله بتشكيل الوزارة، ورغم شعوري وقتذاك بأنني مشارك فعلي في صناعة القرار، إلا أنني لم أتوقع هذا الأمر.
وللأمانة، عندما تناولنا طعام الغذاء الذي أعلمني به بالتكليف السامي في قصر الندوة، وبحضور المرحوم الشريف زيد بن شاكر، فوجئت بذلك، وسألته إذا كان قد درس الموضوع بعناية أم لا. بسبب الإعتبارات المحلية التي تحيط بهذا القرار، ومنها مجلس النواب، لكنّه جزم، وقال: أنت الشخص المناسب (وأنا بدي اياك)... لا ترفض، فقلت له: لن اهرب من المسؤولية، لكن واجبي أن أناقشك ياسيدي في هذا الموضوع، هل أنت متأكد؟ فقال لي: نعم، متأكد؟ وسارت الأمور على هذا الأساس، وأصبحت رئيساً للوزراء .
س: هل صحيح أنك أخبرت جماعة الإخوان المسلمين، حينذاك، بأن حكومتك ليست حكومة مفاوضات ؟
ج : ما قلته بالتحديد إن برنامج هذه الحكومة إصلاحي، وديمقراطي، وأنها ستنهي حالة الطوارئ، والأحكام العرفية، وكلّ ما يتعلق بذلك، وعندنا عدة مهام، ولم أحدّد كلامي لذلك، لا أعرف من أين جاءت قصة: أننا لسنا حكومة مفاوضات .سألني بعض النواب والوزراء عن هذا الموضوع، فقلت لهم: ليست مهمّتنا موضوع المفاوضات، ولكنّنا جئنا لبرنامج واسع، ولم أقل قطعياً إنّنا جئنا من أجل هذه المهمة، أو لم نأت من أجلها. قلت كلاماً، بشكل عام، إن لدينا مهاماً كثيرة، وفي حقيقة الأمر، فقد حققنا الكثير من الإنجازات، ويتذكر المواطنون أن حكومتي هي التي ألغت الأحكام العرفية، ولجنة الأمن الإقتصادي التي كانت متسلّطة على كل قرارات البلد، وكلّ التداعيات القانونية تمتّ معالجتها خلال (5)أشهر، وهنالك إنجازات واضحة للحكومة على المستويين الديمقراطي والإصلاحي، وهذا هو الوعد الذي قطعناه.... لكن مدتنا كانت قصيرة .
س: الحكومات تتعرّض للضغط، إلى الدرجة التي أصبحت معها العرائض جزءاً من قاموس الحياة السياسية، لماذا إنحنت حكومتكم للعاصفة مع أول هبة؟
ج: أريد منك، ومن القارئ، أن تنطروا إلى الصورة بشكل عام، لا أن تُحصر النظره في حادثة إستقالة الحكومة حتى تُفهم الصورة: كان هناك مجلس نواب قوي، ويضم 30 نائباً إسلامياً، وأصدقاء لهم، والتجربة الديمقراطية في بداياتها، وأخذت أبعاداً جميلة جداً، ورائعة، وكان من الخطأ الفاحش إفشال هذه التجربة، لأيّ سبب كان، فهي رصيد الأردن في ذلك الوقت وفي كلّ وقت، مع الشعوب العربية، وحتى الدول الغربية، وفيما كانت هنالك ظروف محلية الكل يعرفها، بدأت التحضيرات لمؤتمر مدريد، ومن عايش تفاصيل تلك الفترة، ويشعر بمسؤولية في إدارة شؤون البلد، وإخراج الأردن من عنق الزجاجة، التي دخل بها بعد حرب الخليج. قلت إن مصلحة البلد يجب أن تعلو على أي شيء، وطلبت من الملك رحمه الله قبول إستقالتي فرفض ذلك، وقال لي: كل الحكومات تتعرّض للمضايقات، فقلت له: يا جلالة الملك، نحن عانينا من الحصار، ونتطلّع إلى اليوم الذي نخرج منه، فإذا حصل أي شيء في البلد، سواء لجهة حلّ مجلس النواب، أو لجهة إسقاط الحكومة، فإنّ كلّ تجربتنا ستولّد شكوكاً في قدرتنا على الذهاب إلى مدريد، هذا أمر يجب أن لا يحدث، نحن يجب أن نبقى أقوياء، ليعرف الأميركيون بأن جبهتنا الداخلية قوية، ومع أي إضعاف لها سيتطاولون علينا هم والإسرائيليون، والعرب الآخرون، الذين تخندقوا في حفر الباطن، وقلت أيضا: إن هذه الحكومة ستتحمّل وزر مدريد، وستُعفى الحكومة التي تليها من هذا الوزر، بحيث يمكن للحكومة التي تليها التخفيف من تبعاتها .
الحسين قال لي:“أُشهد الله أنني ما تعاملت مع أشرف منك”.
وقلت له: يا جلالة الملك، حسب الدستور، فإنّه يحق لعشرة نواب تقديم الطلب بطرح الثقة عن الحكومة، وهم جاهزون لذلك، ووقّعوا على عريضة أصلاً، وهنالك خمسون نائباً جاهزون لحجب الثقة، وحتى لو أراد هؤلاء تغيير رأيهم، فإن في ذلك إحراجاً كبيراً، ويعكس ضعف المجلس، فأقتنع الملك بكلامي. لذلك، عندما قدّمت إستقالتي، وجمع الملك مجلس الوزراء، وعند الوداع في الديوان الملكي، قال لي، وهذا اقتباس: “أُشهد الله أنني ما تعاملت مع أشرف منك”.
أنا تأثرت جداً من هذا الكلام، وتهدّج صوتي، وإعتبرت أن هذه شهادة أعتزّ بها، وسأظلّ طوال عمري،، وقد قدّم لي وسام النهضة المرصّع. تلك كانت جلسة عاطفية، بكل معنى الكلمة، فقد إقتنع الملك بكلامي على أنه ليس هروباً من المسؤولية، ولا تباطؤاً، المهمّ هو مصلحة الأردن العليا، وأن نخرج الأردن من عنق الزجاجة. وثبت أن وجهة نظري كانت صحيحة، ربما تعطّل موضوع الإصلاح، ولكن يجب أن لا ننسى، على الجانب الآخر، أنّه بهذا التصرف، وهذا الوضع، إستطعنا تمرير الأردن من مخاطر كثيرة .
س : دولة أبو نشأت، بالرغم من تولّيك مناصب عديدة، وفي مواقع صنع القرار التنفيذي، إلا إنّك تحظى بمساحة كبيرة من الإجماع، وخصوصاً في الوسط الإعلامي، ما هو السرّ في ذلك ؟
ج : أنا ضعيف بحقّ نفسي، ولا أستطيع أن أتكلم بهذا الموضوع، فأنا لا يوجد عندي “وجهان” أو موقفان متناقضان، رغم أنني في بعض الأحيان أكون دبلوماسياً، ولكنني لست سياسياً محترفاً إلى الدرجة التي تدفعني لعمل أيّ شيء للتمسّك والبقاء في موقعي، لقد تعرضت لظروف قاسية، في مرات عديدة، منها رئاسة الحكومة، وإستقالتي، واتفاقية السلام، وأعتقد أن إبداء رأيي الصريح، في هذا الجانب كلّفني ثمناً سياسياً باهظاً، فأنا صاحب موقف واضح وصريح، وفي نفس الوقت، لست متزمّتاً في أفكاري، وأفهم الواقع والصورة، والعلاقات بين الناس والحكم، وفي النتيجة فإنني لا أعمل أي صفقات على مواقف كثيرة، وأحترم الناس، وأؤمن إيماناً قطعياً بحرية الصحافة، وأعتبرها فعلاً السلطة الرابعة، وكل شيء بمقدوري أن أساعدها به، لا أتردّد عن عمله، سواء كنت رئيساً للحكومة أم لا .
س: هل هذا يفسر انتصار الصحافة لك إبان معركة الحصول على الثقة ؟
ج :طبعاً، لأنّنا كنّا حكومة وطنية، وقد ألغينا الأحكام العرفية، وقدّمنا قانون الأحزاب وقانون المطبوعات، وقانون محكمة أمن الدولة، ونحن الذين ألغينا صفقة الميراج، وخفّضنا ديون الأردن وهذه من بين أشياء كثيرة قمنا بها. الصحافة وقفت معي لأنّّها عرفت أنّني على الطريق الصحيح.
س: ما الذي كنت تتمنى تحقيقه، وأنت في الحكومة، ولم تحقّقه ؟
ج : لقد تحدثت عن نشأتي ودراستي والظروف التي تعرضت لها، ولم نتحدّث عن (تثقيفي) الآخر، من ناحية معرفة العالم، والمطالعة، والجوانب الثقافية والإنفتاح على الآخر، فعبر 30 عاماً من الإقامة في أوروبا، كسفير ثمّ في مواقع مسؤولية كبيرة، فقد تكوّن لديّ نتيجة ذلك برنامج إجتماعي إقتصادي بأطر عريضة لتحديث المجتمع الأردني . وهذا برنامج مستمر، ولا ينقطع، وليس له نقطة واحدة، ولا أستطيع الزعم أن هنالك شيئاً محدداً كنت أعتزم فعله. هنالك رؤية عامة لم تستمر حكومتي لتنفيذه.
س: دائماً كنت تتحدّث عن الإفتقاد لمطبخ سياسي يصوغ السياسات، هل تعتقد بأن مبرّرات هذه الملاحظة ما زال قائماً؟
ج : أولا، المطبخ السياسي الذي أقصده هو داخل السلطة التنفيذية، لأنني أؤمن بأن الحكومة سلطة تدير شؤون البلد، ويجب أن يكون هناك تعدّد في الآراء والتشاور في السياسات، في هذا الوقت بالذات، وفي أي وقت آخر، وإذا لم يكن هنالك أناس لهم الصلاحيات، ولديهم البعد السياسي، ومشاركون في صياغة القرارات، فإنّ القرارات ستكون بلون واحد، وبعد واحد . أنا اعتقد أن المطبخ السياسي قوة للبلد، وأنا اعتقد أن هنالك تغييراً بدأنا نلمس نتائجه، يتمثّل في الإجتماعات التي يتم الدعوة إليها، سواء لمجلس السياسات، أو لغيره. يعني أن هنالك بداية تكوين لمطبخ سياسي، وأتمنّى أن يقوى ويتنوع أكثر وأكثر، ليصبح مؤثراً بصورة أكبر، وما كنا نتحدث عنه، ونطالب به، بدأ يأخذ وضعاً لا بأس به.
بالمقابل، يجب أن تأخذ المؤسسات الدستورية وضعها الحقيقي، والقانوني، بحيث تصبح مؤثّرة، وقويّة، وأنا أكرّر هذا الكلام أحياناً أكثر مما يجب، وذلك على إعتبار بأن في قوة المؤسسات قوة للأردن، وحماية البلد تكمن في تضافر وتنوع الآراء .
وفي هذا الظرف التاريخي، الذي يمرّ به الإقليم، إذا لم تكن جبهتنا متماسكة سيدخل علينا الأغراب، والأفكار الغريبة، والخطيرة، فالبلد لا يتم حماية الأمن داخله، ولن تحمينا جهات أخرى، وحتى نحمي أنفسنا يجب أن يكون هنالك قناعات عند المواطنين بأن ما يدور وما يسير هو صحيح .
س: هل تعتقد بأن هنالك إرادة سياسية للإصلاح السياسي، وما علاقة الأمني بالسياسي في الأردن؟
ج : مرة أخرى، أقول إنه وبسبب الوضع في فلسطين والعراق، ومناطق أخرى من العالم العربي، ودخول إعتبارات وظروف قوية، وتطرف، وإنغلاقات فكرية واسعة، يجب علينا في الأردن أن نوازن بين الإحتياجات الأمنية، وإحتياجات الإصلاح.
س : هذا كلام جديد ؟
ج : مع أنني إصلاحي، وأدعو للإصلاح، لا أستطيع أن أدعو وأن اجعل الأفكار الإصلاحية تكتسح كل شيء آخر، فينبغي الأخذ بالإعتبار الجوانب الأخرى، والأوضاع في المنطقة، ولا أريد أيضاً للفكر الأمني أن يكتسح الفكر الإقتصادي، ونصبح محكومين للتصوّر الأمني بشكل كامل.
لقد تمتّعنا لسنوات طويلة، بإستقرار تحدّث عنه كلّ الناس، والمجتمع الدولي يقدّر هذا الإستقرار والأمان، خصوصاً ونحن نرى ما يجري حولنا، ونحن لا نريد أن نضحي بهذا الأمر، لأيّ سبب كان سواء أكان إصلاحياً أو غير إصلاحي، لكن أيضاً لا نريد لعملية الإصلاح، أن تتوقف وان تغطى على كل اعتبار آخر .
والحقيقة أن جلالة الملك هو الذي يوازن بين هذين المتطلبين، ففي الوقت الذي نرى فيه إجراءات أمنية، فإنه يدفع بالإصلاح بشكل لا يتعارض مع الآخر، بل على العكس، فإنه يمكن أن تلتقي المصلحتان باتجاه خدمة الأردن، لإخراجه من عنق الزجاجة الذي تحدّثنا عنه سابقاً.
س : ولكن هنالك أجندة وطنية، كنتم طرفاً فاعلاً فيها، تحدّثت عن إصلاحات فيما يتعلق بقانون الانتخاب وغيره من الأسس ؟
ج : هذا تماما ما قصدته، إن هنالك وجهة نظر أو رأي قد لا تتّفق معه، بأن القانون الانتخابي الذي اقترحته كرئيس للجنة السياسية في الأجندة الوطنية، إذا طُبّق الآن، قد يعرّض الأمن للخطر، أو يُحدث إختلالات لا داعي لها الآن في هذا الظرف
وعندما أخذنا التفويض بالأجندة الوطنية، كان تفويضاً بوضع خطة بعيدة المدى لمدة عشر سنوات، بمعنى أن ما تمّ إقراره في الأجندة، قد لا يطبق هذه السنة، بسبب الظروف الإقليمية الراهنة، ولكن لدينا مدى طويل يطبق خلاله.
س :كنتم قد دعوتم الأردن في السابق إلى الانفتاح على حركة حماس .... ماذا تقولون الآن بعد ما جرى في غزة ؟
ج : لا أريد أن أتكلم في هذا الموضوع، ولكنني أُخطِّيء حماس كثيرا الآن بما فعلته في غزة، وكان يجب أن تتجنب ذلك بأي ثمن بالصبر، والعض على الأصابع .
كان يجب ان تكون نظرة حماس إستراتيجي أكثر في موضوع أحداث غزة، لأنه من الواضح إن ما حدث هناك، ليس له مستقبل، وهناك حائط سيواجهونه، تماماً مثلما أخطأوا إستراتيجياً عندما قرروا ان تبقى لهم صفة المقاومة ضد الاحتلال، وفي نفس الوقت، حكومة تحت الاحتلال. هنالك تناقض بين هذا وذاك، وقعوا فيه، وجرّونا إليه للأسف. كان من المتوقّع من حماس ان تتعلم من هذا الوضع الاستراتيجي الذي وضعت فيه في مسارها، لكن للآسف مرّة ثانية، فقد وقعت حماس في خطأ أخر.
س: هنالك بعض الملاحظات تسجل على قصر عمر بعض الحكومات، وعدم إتاحة الفرصة أمامها لتنفيذ برامج وسياسات طويلة المدى ما رأيكم؟
ج : منذ زمن بعيد، وعمر الحكومات قصير ، منذ الإستقلال، وهو يعكس ضعفاً بالبنية السياسية، وأنا لا أؤيد ذلك، لكن دون أن يكون هناك حياة سياسية حقيقية، وحياة حزبية حقيقية، ويكون هناك تمثيل حقيقي في مجلس النواب، سيستمر هذا الوضع، لأنّ إختيار الرئيس يتم لإعتبارات معينّة، ليست مبنية على قواعد اللعبة السياسية، وأعضاء مجلس النواب لا يعكسون وجود تكتلات سياسية، سواء حزبية، أو غير حزبية، فالإعتبارات الشخصية، والموقف الشخصي، والخلفيات المناطقية، كلّها إعتبارات قائمة في الإختيار، وداخل هذه المؤسسات، ومن الممكن أن يترك ذلك هوامش للخطأ في الإختيار والسياسات، وبالتالي تستقيل الحكومة، أو يطرأ عليها تعديل .
فإذا عدنا للأساس، الذي تحدّثنا عنه، والمتمثّل بقانون الإنتخاب وقانون الأحزاب وقوة المؤسسات، فإن الوضع يصعب تغييره، وسيبقى على ما هو عليه.
س: قرأنا لك بعض التصريحات التي تقول إن الحكومة الحالية لم تأخذ فرصتها الحقيقة للعمل، بسبب إعاقة بعض القوى لها... من تقصد بذلك ؟
ج : البعد الدستوري للولاية العامة لمجلس الوزراء ليس متوفراً، ومهما إختلف معي الآخرون بهذا الشأن، تبقى الحقيقة بأننا نؤمن بحكومات قوية فيها، وجوه سياسية تستطيع الناس أن تتطلع لها وان تأمل منها . أما حكومات تكنوقراط لوحدها في هذا الظرف الصعب في المنطقة، أنا اعتقد أن هذا الكلام يجب أن يتغير . وهذا لا يعني أنني أدعو لتغيير الحكومة، بل أشدّد على ضرورة قيام الحكومة بدورها بما يتيح لها الدستور . ما قصدته ليس هجوماً على أحد، ولا طموحاً بأي شيء على الإطلاق، وأنا أؤكد أن حكومة قوية تدير شؤون البلد، ويوجد إتّصال وثقة بينها وبين الناس، هو الحل الأمثل، وبعكس ذلك نخشى أن تحدث إختلالات متعدّدة في هذه الفترة بالذات، داخل النسيج الاجتماعي .
س: بحكم خبرتك الطويلة في العمل السياسي، هل توقفت أمام أي من “الظواهر السياسية” التي تتحرّك في فضاء العمل العام ؟
ج :هنالك كفاءات أردنية، سياسية وغير سياسية، لا يمكن إنكارها، وتبوأت مراكز مهمّة سواء في السلطة التنفيذية أو التشريعية، ولكنها كانت كفاءات مبنيّة على نشاط غير جماعي، لذلك بقيت أسماء مطروحة في الساحة، قد تصعد، أو تختفي، لإعتبارات غير موضوعية .
مرة أخرى، نعود لأساس المشكلة، التي تحدّثنا عنها سابقاً، لان النشاط المؤسسي هو الأساس، ولو أن الظواهر التي تحدثت عنها، وأفهم أنك تتحدث عن أشخاص محددين، لو أنها إنضوت في مؤسسات سواء دستورية مثل مجلس النواب، أو خارج نطاق المؤسسي الدستوري مثل الأحزاب السياسية أو التجمعات لبرزت ظواهر سياسية أقوى، وبقيت مدة أطول .
الآن، نسمع بفلان أنّه اختفى، وأن الرضي عنه ليس حاصلاً، فأصبح في الظل، ولكنّ فلاناً مرضي عنه، أصبح تحت الأضواء، وبالتالي يتبوأ مسؤولية. كل ذلك يمكن أن يكون جزءاً من طبيعة العمل السياسي، لكنّ كل هذه الظواهر السياسية، خارج إطار المؤسسات، لذلك فأن أثرها محدود .
لا أريد أن أتحدث عن أفراد محددين، حتى لا يصير كلامي شخصياً بهذا الصدد، وقد أكون أنا أيضا ضمن هذه الفئة، التي تعمل على أساس فردي، وأتمنى أن يتغير هذا الكلام، وهذه قضية يجب أن يتصدى لها المجتمع نفسه، وليس الدولة، وعندما نتحدّث عن تنمية سياسية، يجب أن لا تقوم على هذا الأمر وزارة ضمن هيئة الحكومة، بل يجب أن تكون حركة المجتمع هي التي تحدد ذلك.
س: نعود للتحدث عن البعد الاجتماعي الإنساني، لنسأل: بما أنكم عائلة على إشتباك تاريخي مع السياسة، هل إمتدّ ذلك إلى أبنائكم ؟
ج :رزقني الله بولد وبنت ... نشأت يعمل في مجالات مالية إقتصادية مستقلة، وفهمه السياسي لا بأس به، لكن ليس لديه أي إهتمامات سياسية، ولا أظنّ أن هذا الوضع سيتغير .
وابنتي نادين، متزوجة، وتعمل أيضاً، لكنها بعيدة تماماً عن الموضوع السياسي، ولا أتوقّع لأيّ منهما أن يتغيّر مجرى حياته، مع انه حدث معي نفس الشيء. كنت اعمل في البنك المركزي، لكن تغيّر مجرى حياتي. أيضا لدي أربعة أحفاد ونصف، أي أن هنالك واحداً على الطريق أن شاء الله .نشأت أب لولد وبنت طاهر وماسا، وهو بانتظار ثالثهم، وإبنتي لديها بنتان .
س: هل تعتزم فعلاً إصدار صحيفة ؟
ج : هذا كلام غير صحيح، ولا يوجد لي أي علاقة مع أي صحيفة!
س : وهل صحيح، في نهاية الأسئلة، انكم أول من أدخلتم ( الشامبو) الى فلسطين ؟
ج: هذه مبالغ كبيرة، وقصة( الشامبو) هذه من نسج خيال أحد الأصدقاء، وحقيقتها أننا أول مرة رأينا فيها (الشامبو) كانت في نابلس عام 1950 ، عندما ذهب والدي لزيارة “فوزي الملقي”، رجع، ومعه زجاجة، وبداخلها مادة سائلة، وعندما سألنا: هل هذا”كالونيا” قال: لا سأريكم عندما يحين وقت الحمام