رحلة الماوراء لمصطفى القرنة: مدخل لعالم الماورائيات في "جدارية" محمود درويش
03-03-2025 01:58 PM
عمون - قراءة محمد أحمد ممادي- يعد كتاب "رحلة الماوراء" للناقد والروائي مصطفى القرنة من الأعمال النقدية التي تقدم مداخل جديدة لفهم الأدب والشعر من منظور فلسفي ومعرفي عميق. يتمحور الكتاب حول تحليل مفاهيم الماورائيات في الأدب، وتحديدًا في "جدارية" الشاعر الفلسطيني محمود درويش.
هذه القصيدة تعتبر من أبرز أعمال درويش التي تمزج بين الوجود والعدم، بين الشعر والسياسة، وتختلط فيها الرمزية والتجريد مع الحضور الملموس للواقع الفلسطيني.
الماورائيات: مدخل علمي وفلسفي
يبدأ مصطفى القرنة في كتابه بتقديم مدخل إلى علم الماورائيات (Metaphysics)، وهو فرع من الفلسفة يهتم بدراسة ما وراء الطبيعة، أي الأسئلة التي تتجاوز المادة والظواهر الملموسة، مثل طبيعة الوجود، والواقع، والروح، والزمن. يشير القرنة إلى أن الماورائيات هي مجال يثير الجدل بين الفلاسفة والعلماء، حيث تتنوع الآراء حول ما إذا كان من الممكن تفسير الظواهر الماورائية باستخدام العقل والعلم، أم أن هناك أبعادًا تتجاوز فهمنا المحدود.
الماورائيات في شعر محمود درويش:
يطرح الكتاب قراءة نقدية لشعر محمود درويش، حيث يركز على الماورائيات في قصيدته الشهيرة "الجدارية". يصف القرنة كيف أن درويش يمزج بين الخيال والتجريد، ليخلق عالمًا شعريًا يتجاوز حدود الواقع ويبحث في أعماق الوجود الإنساني والفلسفي. في "الجدارية"، تتداخل الأسئلة الوجودية مع مشهدية الحياة والموت، لتكشف عن روح المقاومة الوجودية التي تصاحب الإنسان الفلسطيني في منفى وجوده المستمر.
الجدل حول الظواهر الماورائية:
يناقش الكتاب في أحد فصوله الجدل حول الظواهر الماورائية، التي تتجاوز تفسير العقل البشري، مثل فكرة الخلود. في "الجدارية"، يقدم درويش مسألة الخلود بطريقة رمزية، من خلال الأسطورة والتاريخ والشخصيات التي تظل حية في الذاكرة رغم موتها. هذا الخلود لا يتصل بالمعنى التقليدي للحياة بعد الموت، بل هو نوع من الاستمرار في الذاكرة الجماعية والثقافية التي تحافظ على الكائن الفلسطيني في مواجهة محو التاريخ والهوية.
فلسفة الوجود عند درويش:
يمثل "التصرف" عند درويش في "الجدارية" تجسيدًا لفلسفته الوجودية. يطرح الشاعر في قصيدته أسئلة عن معنى الحياة والموت، ووجود الإنسان في ظل العدم المستمر. هذا الوجود الذي لا يتحقق إلا عبر المقاومة المستمرة للاختفاء أو النسيان. من خلال الرمزية والتجريد، يكتشف القارئ في قصيدته تساؤلات حول الحرية والمصير، حيث لا يمكن للإنسان الفلسطيني إلا أن يكون في حالة دائمة من المقاومة النفسية والوجودية.
الخيال والتجريد:
في "الجدارية"، تتجسد القدرة الشعرية لدى درويش في استخدام الخيال والتجريد، ما يجعل القصيدة تنساب بين عالمين: عالم الواقع المادي وعالم الماورائيات. هذه الثنائية تُظهر الصراع الداخلي بين الإنسان ورغباته في الحياة، وبين الوجود الفلسفي والروحي الذي لا يراه إلا من يستطيع تجاوز الماديات، مثلما يصف القرنة.
مقاومة القلق الوجودي:
ينتهي مصطفى القرنة إلى دراسة "مقاومة القلق الوجودي" في شعر درويش، حيث نجد الشاعر يحاول خلق لغة مقاومة ترفض الاستسلام للواقع المؤلم. في "الجدارية"، يظهر الصراع بين الموت والحياة، ولكن الشاعر يرفض القبول بالحقيقة النهائية للموت. بدلاً من ذلك، يقاوم درويش هذا القلق الوجودي عبر الكلمات التي تبث الأمل، والحياة التي تتجدد في كل مرة يُذكر فيها الشعب الفلسطيني أو يُحكى عن تاريخه.
في كتابه "رحلة الماوراء"، يعرض مصطفى القرنة رحلة نقدية عميقة تتناول الشعر الفلسطيني، خاصة "الجدارية" لمحمود درويش، من خلال عدسة الماورائيات. يظهر درويش في هذا العمل شاعرًا يمتلك القدرة على مزج الخيال الفلسفي مع الواقع الفلسطيني، ليخلق نصًا أدبيًا غنيًا بالرمزية والتجريد، ويواجه من خلاله أسئلة الوجود والموت والخلود.