يأتي رمضان فتُضاء القلوب بنوره، وتمتلئ الأرواح بسكينته، لكنه أحيانا يهلّ ناقصًا، حيث نفتقد فيه وجوهًا ألفنا وجودها فنشعر أن للفرح ظلًّا من حزن، وللذكرى نبضًا من وجع. رمضان هو شهر اللقاء، لكنه أحيانًا يكون أيضًا موسم الحنين، حين نجد أماكنهم خالية وأصواتهم غائبة، لكنهم رغم ذلك، ما زالوا هنا….بين دعواتنا ودموعنا وذكرياتنا.
رحم الله أرواحًا جاء رمضان وهم تحت التراب. كانوا بيننا قناديل تضيء ليالينا، ونسمات تهب فتنعش القلوب، فإذا بهم اليوم نجوم بعيدة نراها بقلوبنا لكنها لا تعود إلى أرضنا. رحلوا عن أعيننا، لكن ظلالهم ما زالت تسكن الزوايا، وأصداء ضحكاتهم ما زالت عالقة في جدران الذاكرة.
كم كان لصوتهم وقع في ليالي التراويح، كنغم يعزف في صمت الروح. وكم تألّقت وجوههم كالبدر في ليالي الرحمة. كانوا معنا في الأمس، يسبقوننا إلى الطاعات، تتوهج أعينهم ببريق الإيمان، وتمتلئ قلوبهم ببشاشة الرضا، حتى إذا جاء القدر أطفأ حضورهم فجأة وترك في قلوبنا فراغًا موحشًا، كبيتٍ هجره أهله فبقيت فيه آثارهم شاهدة على حب لا يفنى.
لكن، هل يرحلون حقًا، أم أنهم ما زالوا بيننا بطرق لا ندركها؟ في تفاصيل حياتنا، في أماكن جلوسهم التي لا نجرؤ على تغييرها،في رائحة ملابسهم العالقة في الذاكرة، وفي كلماتهم التي ما زالت تتردد في خواطرنا كلما احتجنا إليهم. إنهم باقون في دعواتنا، في حسناتهم الجارية، في أثرهم الطيب الذي تركوه، وكأن الله قد جعل لكل روح صالحة امتدادًا لا ينقطع في الدنيا، حتى بعد أن تغيب عن الأنظار.
وهكذا، في كل عام يعود رمضان، لكنه لا يكون كما كان. نفتقد وجوههم عند الإفطار، نبحث عن أصواتهم بين دعوات السَّحر، ونتخيل ملامحهم بين صفوف المصلين. لكنه الوعد الحق، والرجاء الصادق، بأن رحمة الله تحفهم، وأن أرواحهم ترفرف في عليين، حيث لا وجع ولا وداع، بل نور وسكينة ورضوان من الله.
لكن رمضان ليس فقط موسم الحنين، بل هو أيضًا موسم الرجاء. ربما لم يكن الفقد إلا موعدًا مؤجلًا، وليس فراقًا أبديًا. فكما جمعنا الله في هذه الدنيا، سيجمعنا بهم بأذنه في مستقر رحمته، حيث لا افتراق ولا غياب ولا حزن. سيشرق ذلك اللقاء يومًا، كما يشرق الفجر بعد أطول ليالي الحنين.
وحتى يحين ذلك اليوم، لا نملك إلا الدعاء، ولا نجد عزاءً إلا في رجاء الوعد الإلهي:
"وَٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَٱتَّبَعَتۡهُمۡ ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَٰنٍ أَلۡحَقۡنَا بِهِمۡ ذُرِّيَّتَهُمۡ وَمَآ أَلَتۡنَٰهُم مِّنۡ عَمَلِهِم مِّن شَيۡءٖۚ كُلُّ ٱمۡرِيِٕۭ بِمَا كَسَبَ رَهِينٞ"
يا من غبتم عن موائد الإفطار، وعن سجدة القيام، وعن همسات الذكر، أبشروا برحمة الله الواسعة، بدعوات نرسلها إليكم مع كل دمعة شوق، مع كل رفّة جفن تلمح طيفكم في لحظة تأمل. رمضان بغيابكم ليس كما كان، لكنه يبقى موعدًا لنا مع الدعاء، مع الرجاء بأن تكون دياركم في جنان الخلد عامرة بالنور، كما كانت قلوبكم عامرة بالمحبة.
اللهم اجعل قبورهم رياضًا من رياض الجنة، وأبدل وحشتهم أنسًا، وأكرمهم بمغفرة لا تنقطع ونعيم لا يزول. رمضانهم اليوم في رحابك، فارزقهم يا رب من جنتك ما تقر به أعينهم، كما كانوا لنا قرة عين في الدنيا. رحمكم الله بقدر ما أوجعنا غيابكم، وبقدر ما اشتاقت لكم الدنيا، وبقدر ما تمنَّت قلوبنا لو أن للقاء أجلاً غير الأجل