يستحق بيان حركة طالبان الذي اصدرته مباشرة بعد اعلان الرئيس الاميركي اول من امس، سحب عشرة آلاف جندي اميركي من افغانستان بحلول نهاية العام على ان تسحب 23 الفاً آخرين بحلول ايلول من العام 2012... نقول: يستحق هذا البيان، التأمل والتوقف عند مضمون الخطاب الذي ينطوي عليه وتجاوزه ما دأب كثيرون، على وصم الحركة بالغوص فيه والتعلق بمفردات تأخذ طابعاً غيبياً، وتتكئ على مصطلحات بالية وغابرة في مواجهة احتلال اميركي واطلسي، تواصل لعقد من الزمن، وما يزال يأخذ طابعاً دموياً متمادياً يحصد ارواح الأبرياء ويعيث خراباً ودماراً في بلاد اوصلها «المتنورون» الى ادنى سلّم الحضارة البشرية.
طالبان التي ردت بتحد وازدراء على بيان اوباما ورأت فيه مجرد «امر رمزي»، تعهدت بتكثيف عملياتها حتى تغادر جميع القوات الاجنبية افغانستان وواصلت القول في تشخيص لافت، وربما يكون مدهشاً، لمن واصلوا الاعتقاد، ان ليس لدى هذه الحركة «الظلامية» ما تقدمه على الصعيد السياسي والاعلامي والعلاقات العامة، سوى الخزعبلات وأوامر القمع وقطع الآذان وحرق مدارس الاناث وسكب السوائل الحارقة على وجوه النساء السافرات (او غير المنقبات).. ما ورد في اعلان اوباما - تقول الحركة - مجرد خطوة رمزية، لن ترضي المجتمع الدولي «المنهك» من الحرب او الشعب الاميركي، ثم تمضي في قراءة ولغة تحريضية تكاد ان تصيب نجاحاً لدى الرأي العام الاميركي «.. يسعى اوباما وامراء حربه الى خداع امته بهذا الاعلان، بينما في الواقع، هم لا يحترمون رغبة امتهم المتعلقة بانهاء هذه الحرب وهذا الاحتلال».
ثمة حاجة لوقفة ومحاولة عقد مقارنة بين ما يحفل به الخطاب الفلسطيني «الرسمي» وبين ما وصل اليه خطاب طالبان من حرفية وفهم مقبول (حتى لا نقول عميق) لما يجري على الساحة الدولية وخصوصا الاميركية «.. على دافعي الضرائب الاميركيين ان يدركوا انه ومنذ عشرة اعوام، تُهْدَر اموالهم في هذه الحرب التي لا هدف منها ولا معنى، او انها تذهب الى جيوب مسؤولي نظام كابول الفاسد».
وفي ثقة متزايدة بالنفس تدعمها نجاحات باهرة (كما يجب الاعتراف) يمضي بيان الحركة الى التأكيد على ان «امارة افغانستان الاسلامية تودّ ان توضح مرة اخرى، ان الحل للازمة الافغانية يكمن في انسحاب كل القوات الاجنبية على الفور، وإذا استمر الوضع على ما هو عليه فان كفاحنا المسلح سيزداد يوماً بعد يوم».
ستضحكون.. حسناً، فليس مهما هنا، التوقف عند مصطلح الامارة او مضمون هويتها الاسلامية المقصودة بقدر ما هو مطلوب فعلاً، التساؤل عن سر هذا الاصرار والعناد على مقارعة وانهاك واستنزاف اقوى قوة عسكرية واقتصادية عرفها التاريخ البشري حتى الان وهي اميركا، بل أَضِف اليها قوات حلف شمال الاطلسي.
هنا ايضا ودائما، يمكن التدقيق في سلسلة التراجعات والهزائم التي منيت بها حرب «الضرورة» خاصة اوباما، الذي قال ذات يوم ان حرب العراق هي حرب «خيار» فيما حرب افغانستان حرب «ضرورة» وقام بارسال 33 الف جندي هناك وعلى رأسهم «بطل» حرب العراق الجنرال ديفيد بترايوس مخترع فكرة «الصحوات» في محاولة لاستنساخ التجربة العراقية فسقط «الاثنان» في اختبار النتيجة ولم يكن وصف الجنرال ستانلي مكريستال لقائده الاعلى مجرد زلة لسان على ما يبدو، رغم انه دفع ثمنها.
هو إذاً بحث عقيم ومرتجل عن استراتيجية خروج بدأت بمحاولة التفاوض مع طالبان (ولكن مع الطرف المعتدل) فخاب مسعاهم، ثم سعوا الى ارسال دميتهم (قرضاي) ليجرب حظه فلم يحظ بغير الازدراء، وها هم يُجبرون على الفصل بين التوأم السيامي القاعدة وطالبان، لكن الاخيرة متمسكة بمواقفها، انسحاب تام بغير شروط، وهو امر يشبه الاستسلام والهزيمة على نحو يفوق ما حدث في ربيع العام 1975 في فيتنام.
ليس صدفة أن يقول ريتشارد كوهين في صحيفة واشنطن بوست يوم الخميس الماضي، بان الوقت قد حان للخروج من افغانستان «.. افغانستان مكان غريب لا ينبغي البقاء فيه، يمكننا قتل الارهابيين، لكننا لن نقتل الثقافة التي تنتجهم. لقد وصل الفساد الى مستويات كبيرة، وافتقارنا الى الفهم متواضع واهداف حربنا غير متماسكة، ربما يكون الوقت قد حان للرحيل عن افغانستان، وتوفير ذخائرنا لامر قد يتطلبها فعلياً».
حقاً «فيفا» طالبان.. فهل يتعلم اهل السلطة واصحابها.. في رام الله؟
الرأي