من زوايا عديدة، تبدو واقعة استقالة وزير الإعلام والاتصال الأستاذ طاهر العدوان، أقرب لـ «الاستثناء» منها إلى «مألوف الاستقالات»...ليس لأن الوزراء في بلادنا لا يستقيلون، إلا من رحم ربي، بل لأن من حيث توقيتها ودلالاتاها و»الأسباب الموجبة» لها، تشفّ عن «النوايا» الحقيقية للحكومة فيما خص حرية الصحافة واستقلالية وسائل الإعلام، إلى آخر عناوين وفصول «كتاب الإصلاح السياسي والتحوّل الديمقراطي».
من زاوية الصدقية والجدية...لم يجف بعد، حبر «الاستراتيجية الجديدة للإعلام»، التي من المفروض أنها نهضت بالصحافة والإعلام، ورفعت سقوف الحرية والاستقلالية...لم يتبدد بعد، أثير التصريحات والوعود و»ضجيج» لجنة الحوار والأحاديث المتكررة عن هذه الحكومة بوصفها حكومة إصلاح قولاً وفعلاً، حتى رأينا كيف أن الحكومة تأخذ بيد، ما قدمته باليد الأخرى...تمشي خطوة للأمام، وتتراجع خطوة – حتى لا نقول خطوتين للوراء – تتحدث عن الإصلاح وتعمل بالضد منه...هذا هو جوهر ما قاله الوزير المستقيل، وهو لا يختلف بشيء عمّا تقوله الأحزاب وقوى الإصلاح ومؤسسات المجتمع المدني وغالبية الأردنيين على أية حال.
ثلاثة قوانين، حمل كل واحدٍ منها قيداُ إضافياً على حرية الصحافة والرأي والتعبير..لم أطلع على «مسوّداتها» بعد، بيد أنني لا أجد سبباً يمنعني من تصديق الوزير المستقيل وعدم الأخذ بتقديراته في هذا المجال...وإن كنت اطلعت على التعديل الخاص بقانون محاربة الفساد، والذي يضع سيفاً مسلطاً على أعناق الصحف ووسائل الإعلام بحجة التصدي لظاهرة «اغتيال الشخصية»، فإن المرء يخلص إلى استنتاجين اثنين: الأول، أن قانون محاربة الفساد قد جرى تطويره لمحاربة من يحاربون الفساد عموماً...والثاني، أن هذا التعديل يعطي «فكرة» عن طبيعة التعديلات المراد إقحامها على قانوني المطبوعات والنشر والعقوبات.
وإن نظرنا إلى استقالة العدوان، من زاوية «آلية اتخاذ القرار في مجلس الوزراء»، فإن الأمر ينطوي بدوره على «خلل» من العيار...فعندما تكون الأغلبية ضد هذه التعديلات، وليست موافقة على تحويل مشاريع القوانين هذه إلى مجلس النواب بصيغتها القائمة...ومع ذلك، يفاجأ الجميع بأنها مدرجة على جدول أعمال الدورة الاستثنائية، فهذا يعطينا فكرة جيدة، عن الكيفية التي تنظر بها الحكومة لثنائية الأغلبية والأقلية..فإذا كان التوافق داخل مجلس الوزراء، لا يُحترم...إذا كانت الأغلبية لا يؤخذ برأيها...فأية ضمانات بأن مخرجات التوافق الوطني سوف تحترم، وأن رأي الأكثرية الأردنية سوف يؤخذ به...وأن الديمقراطية ستمتد وتنتشر من داخل مجلس الوزراء إلى مخلتف مؤسسات الدولة، وصولاً لبناء نظام تشاركي تشاوري، يقوم على قاعدة احترام الرأي والرأي الآخر، خصوصا حين يكون هذا «الرأي الآخر»، هو ذاته رأي الأكثرية.
وثمة زاوية أخرى، «استثنائية» بدورها، يمكن أن ننظر من خلالها إلى مغزى الاستقالة ودلالاتها...الا وهي صمت الحكومة حيال تفاقم ظاهرة «البلطجة» ضد المتظاهرين ووسائل الإعلام وأصحاب الرأي الآخر في البلاد...وقد لفت الوزير إلى المخاطر الكامنة وراء تفشي هذه الظاهرة والتردد في استئصالها، مذكّراً بما آلت إليه دول ومجتمعات شقيقة قريبة وبعيدة منّا...وحديث الوزير هنا، يتقاطع إلى حد كبير، مع أحاديث الجسم الصحفي، فضلا عن تقارير بعض المنظمات الدولية، التي تذهب جميعها إلى اتهام الحكومة بالمسؤولية عن تفاقم هذه الظاهرة، سواء بالمساعدة في إطلاقها ودعمها وتوفير الرعاية، أو بالتهاون في التصدي لها واستئصالها...في جميع الحالات، الحكومة مذنبة، وذنبها يصبح فاقعاً حين نكون على يقين من أنها تعرف من هم هؤلاء الجناة والبلطجية، الذين يسعون في إرهاب الإعلام وترويع الصحافة والصحفيين، وتمتنع عن محاسبتهم وملاحقتهم وجلبهم للعدالة...فهل يليق بنا، في بلد القانون والأمن والأمان، أن تصبح ظاهرة «البلطجية» قريناً لنا، وسمة مميزة لحياتنا السياسية والإعلامية، إلى جانب «جرائم الشرف» على سبيل المثال؟...ألم يحن الوقت لوقفة جادة وجدية، لا مكان فيها لـ»الأسباب المخففة» و»العذر المحلل»، إلى غير ما هنالك...نريد أن نرى هؤلاء خلف القضبان، وحتى يحصل ذلك، ستظل «كل فئران الأرض تلعب في أعبابنا».
هذا هو الوزير الثالث، الذي يُقال أو يستقيل، على خلفية الفشل والتراخي في محاربة الفساد أو الدفاع عن الحريات...كم وزير يتعين أن يستقيل قبل أن تشعر الحكومة بأن أوراقها قد تساقطت... ثم ماذا يعني أن تأتي «الاستقالة المُسَبّبة» بعيد أيام من فروغ لجنة الحوار الوطني من مهمتها، وقبيل أيام على انتهاء أعمال لجنة التعديلات الدستورية...أية ثقة بمستقبل مشروعنا الإصلاحي ستظل لدينا بعد كل ما كشف عنه الوزير المستقيل...وهل يمكن لحكومة تتصرف من وراء ظهور وزرائها، أن تكون حكومة قادرة على إجراء انتخابات حرة وشفافة ونزيهة...هل يمكن لهذه الحكومة أن تكون حكومة إصلاحات وحريات...أسئلة وتساؤلات وكثير غيرها، تكتسب أهمية إضافية في ضوء تلاحق مسلسل الأزمات التي تطارد الحكومة، من الكازينو إلى «خالد شاهين»، وانتهاء بالاستقالة، والحبل على الجرار.
الدستور