facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




شمسُنا لا تُغطّيها غرابيلهم


أ.د سلطان المعاني
17-02-2025 09:42 AM

"فلسطين في عيون الأردنيين قيادة وشعباً"..

تشكل الأحداث السياسية الجارية في العالم اليوم مرآة عاكسة للأبعاد القيمية، والحضارية، والتاريخية التي تحكم مسار العلاقات الدولية والنزاعات الإقليمية، ويبرز الصراع الفلسطيني الإسرائيلي كأحد أبرز هذه النماذج، حيث يتداخل البعد القيمي مع الحسابات الجيوسياسية والتاريخية. إن تحليل هذا الصراع لا يمكن أن يقتصر على بعده السياسي والعسكري، بل لا بد من فهم القيم والمفاهيم التي يستند إليها كل طرف، والتي تحدد استمرارية النزاع وتفاعلاته.

إنّ القضية الفلسطينية تستند إلى قيم العدالة والحرية وحق تقرير المصير، وهي مفاهيم تكرسها الشرعية الدولية، لكنها تصطدم بروايات سياسية وقانونية تتبناها القوى الكبرى، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، التي أعادت تشكيل مواقفها تجاه هذا الصراع عبر إداراتها المختلفة، وخاصة في عهد دونالد ترامب، الذي منح إسرائيل دعماً غير مسبوق من خلال الاعتراف بالقدس عاصمة لها ونقل السفارة الأمريكية إليها، وطرح "صفقة القرن"، التي حاولت إعادة تعريف مفهوم الدولة الفلسطينية وفق رؤية منحازة للاحتلال الإسرائيلي.

ونرى أن الصراع يتجاوز بعده السياسي ليصبح معركة حضارية تعكس تباين الرؤى الثقافية والتاريخية بين الشرق والغرب. إذ ترى إسرائيل نفسها امتداداً للحضارة الغربية في منطقة الشرق الأوسط، مستندة إلى دعم غير مشروط من القوى الغربية التي تعتبرها "واحة الديمقراطية" في منطقة مضطربة. في المقابل، تعتبر الشعوب العربية والإسلامية أن فلسطين تمثل إرثاً تاريخياً ودينياً لا يمكن التفريط فيه، مما يجعل هذا النزاع أكثر تعقيداً، حيث لا ينحصر في كونه خلافاً سياسياً على الأرض بقدر ما هو صراع على الهوية والوجود.

وإذا عدنا إلى الجذور التاريخية للصراع، نجد أن الأحداث الكبرى، بدءاً من وعد بلفور عام 1917، مروراً بالنكبة عام 1948، وحرب 1967، والانتفاضتين، وصولاً إلى الحروب المتكررة على غزة، تعكس استمرارية الظلم التاريخي الذي وقع على الفلسطينيين. هذه السلسلة من الأحداث لم تكن مجرد لحظات عابرة، بل شكلت مساراً متصلاً من السياسات الاستعمارية التي أعادت رسم خريطة المنطقة بما يخدم مصالح القوى العظمى، مع تغييب كامل لحقوق الشعب الفلسطيني.

وتشكل غزة اليوم نموذجاً صارخاً للصراع بين المبادئ الإنسانية والتوظيف السياسي. فمن ناحية، يتم تبرير العدوان الإسرائيلي المتكرر على القطاع بحجج أمنية، بينما يرزح أكثر من مليوني فلسطيني تحت حصار خانق منذ أكثر من عقد ونصف، في ظل غياب أي تحرك دولي حقيقي لإنهاء هذه المأساة. المفارقة أن الدول الغربية، التي ترفع شعارات حقوق الإنسان، لا تتوانى عن دعم إسرائيل في حربها على الفلسطينيين، متجاهلة الجرائم والانتهاكات التي ترتكب بحق المدنيين. هذه الازدواجية في المعايير تكشف عن خلل جوهري في النظام الدولي، حيث يتم تصنيف الضحايا وفقاً للانتماءات السياسية والجغرافية، وليس بناءً على مبادئ حقوق الإنسان العالمية.

إن التحولات السياسية الإسرائيلية في السنوات الأخيرة تُنذر بتصعيد أكبر، حيث تعزز الأحزاب اليمينية المتطرفة قبضتها على الحكم، مما يعني سياسات أكثر عدوانية تجاه الفلسطينيين، سواء من خلال التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية، أو عبر فرض مزيد من الإجراءات العقابية على قطاع غزة. ومع مرور الوقت يتعرض الفلسطينيون لعزلة سياسية غير مسبوقة، حيث لم تعد القضية الفلسطينية في صدارة الأولويات الإقليمية كما كانت في العقود الماضية، مما يضعف فرص الحل العادل ويعزز منطق القوة في إدارة النزاع. رغم هذا الواقع القاتم، فإن المقاومة الفلسطينية لا تزال حاضرة بأشكال متعددة، سواء عبر المواجهة المسلحة أو الحراك الشعبي والدبلوماسي. ورغم الاختلال الكبير في موازين القوى، فقد أثبت الفلسطينيون أن استمرارهم في النضال يحول دون تصفية قضيتهم، كما تسعى بعض القوى الدولية. وفي المقابل فإن الدعم الشعبي العالمي المتزايد للقضية الفلسطينية، خاصة في الجامعات الغربية والمجتمعات المدنية، يعكس تحوّلاً تدريجياً في الرأي العام، قد يسهم مستقبلاً في الضغط على الحكومات لاتخاذ مواقف أكثر توازناً.

يبقى السؤال الأهم: إلى أين يتجه هذا الصراع في ظل المتغيرات الإقليمية والدولية؟ من الواضح أن استمرار السياسات الإسرائيلية العدوانية، إلى جانب الانحياز الأمريكي والغربي، سيؤدي إلى مزيد من التصعيد، مما يجعل فرص الحل السياسي أكثر تعقيداً. ومع ذلك، فإن التاريخ يؤكد أن الشعوب التي تناضل من أجل حريتها، وإن تأخرت في تحقيق أهدافها، لا يمكن هزيمتها بالكامل، ما يجعل القضية الفلسطينية رغم كل التحديات، قضية لا تزال عصية على التصفية والنسيان.

أما ترامب، الذي رأى في إسرائيل مشروعًا يجب أن يكتمل بلا قيود، كان المهندس الذي منحها الضوء الأخضر لتتجاوز كل ما تبقى من الخطوط الحمراء، فكانت غزة الهدف الأكثر سهولة، حيث تحولت إلى مختبر مفتوح لتجربة كل أشكال العنف والدمار. منذ إعلانه القدس عاصمة لإسرائيل ونقله السفارة الأمريكية إليها، دخل الفلسطينيون في مرحلة جديدة من العزلة الدولية، حيث لم يعد هناك حتى وهم الوساطة، ولم تعد الإدانات الشكلية ذات جدوى. أصبح المشهد واضحًا: غزة ستظل رهينة الموت البطيء تحت الحصار، أو الموت السريع تحت القصف. فالأمر حرب غادرة، وعملية تدمير ممنهج لكل مقومات الحياة، حيث المباني تُزال من الوجود، والمنازل تُسوى بالأرض، والمستشفيات تخرج عن الخدمة، حتى المدارس لم تسلم، وكأن الهدف لم يكن تحقيق انتصار عسكري، بل محو الحياة من غزة بالكامل. فعلى مدار 15 شهرًا من القصف المستمر منذ السابع من أكتوبر 2024، لم تكن غزة ساحة حرب بقدر ما كانت مسرحًا لمجزرة طويلة الأمد، حيث لم يُترك للمدنيين أي خيار سوى الموت أو النزوح. موجات التهجير القسري دفعت مئات الآلاف من السكان من الشمال إلى الجنوب، فيما يشبه إعادة إنتاج نكبة 1948، لكن هذه المرة على مرأى ومسمع العالم، الذي اكتفى بالصمت أو البيانات الخجولة، بينما 50 ألفًا من النساء والأطفال قضوا تحت الركام، والبقية ما زالوا يواجهون الجوع والمرض في ظل انهيار كامل للبنية التحتية. لم يعد في غزة كهرباء، ولا ماء نظيف، ولا دواء، حتى الطعام بات يُستخدم كسلاح، حيث تم تقنين دخول المساعدات ليصبح جزءًا من عملية التجويع الجماعي التي فرضتها إسرائيل، وسط دعم أمريكي مطلق، بدأه ترامب واستمر بعده.

وحين أعلنت إسرائيل عن هدنة هشة، لم تكن سوى استراحة في مسلسل القتل، حيث عاد الآلاف إلى شمال غزة المدمرة بالكامل، ليجدوا أنفسهم وسط خراب مطلق، فلا منازل، ولا طرق، ولا مؤسسات، وكأن الحياة قد أُعيد ضبطها على العدم. من بقي هناك ينتظر إعادة إعمار، ويحاول البقاء وسط الأنقاض، بينما إسرائيل تواصل وضع الشروط المستحيلة، والعالم يتحدث عن خطط مستقبلية لا مكان لها وسط هذه الفوضى. هنا لا يوجد سلام، ولا حتى هدنة حقيقية، فقط انتظار لجولة جديدة من الموت، بعدما تحولت غزة إلى أكبر مقبرة جماعية مفتوحة في العالم، حيث تتكدس الجثث تحت الأنقاض، فيما الناجون يمشون وسط الدمار وكأنهم أشباح في مدينة ماتت لكنها لم تُدفن بعد.

وفي خضم كل هذا لم يكن الدور الأردني يومًا هامشيًا في القضية الفلسطينية، بل كان ولا يزال العمق الاستراتيجي والرئة التي تتنفس منها فلسطين في أزماتها، وخاصة في ظل العدوان المستمر على غزة. فمنذ اللحظة الأولى للحرب، تحركت كل مكونات الدولة الأردنية، قيادةً وشعبًا ومؤسسات، في استجابة إنسانية فورية، جعلت من الأردن الجسر الجوي الأول للمساعدات الإنسانية التي كانت بمثابة شريان الحياة لأهلنا في غزة المحاصرة. ولم يكن هذا الدعم مِنّة أو موقفاً سياسيا أو إجراء دبلوماسياً، لكنه التزامٌ تاريخيٌّ وأخلاقيٌّ متجذرٌ في الوجدان الأردني، حيث لم تتوقف القوافل، ولم تنقطع الإمدادات، رغم كل التحديات والقيود المفروضة على إدخال المساعدات. وبينما عجز العالم عن اتخاذ موقف حاسم لوقف النزيف الفلسطيني، كان الأردن يؤكد مرة أخرى أن البعد الإنساني لا يخضع للمساومة، وأن غزة ليست وحدها، في موقف يعكس ثبات الرؤية وحكمة القيادة في التعامل مع المحن الكبرى.

وفي الأيام القليلة الماضية، شهد العالم لقاءً بالغ الأهمية بين جلالة الملك والرئيس الأمريكي دونالد ترامب، حيث حاول الأخير الترويج لخطته المثيرة للجدل التي تسعى إلى تفريغ غزة من سكانها وترحيلهم إلى الأردن ومصر، في محاولة لفرض واقع جديد يخدم المصالح الإسرائيلية ويجهز على القضية الفلسطينية نهائيًا. هذه الخطة، التي تعكس نهج ترامب القائم على الصفقات السياسية العبثية، لم تكن سوى إعادة إنتاج لمشاريع التهجير القسري التي لطالما سعت إليها إسرائيل بدعم أمريكي غير مشروط.

إلا أن جلالة الملك بحكمته السياسية وحنكته الدبلوماسية استطاع تفويت الفرصة على ترامب وإفشال هذا المخطط قبل أن يتحول إلى واقع، حيث كان الموقف الأردني الدبلوماسي واضحاً في رفض أي حلول على حساب الهوية الفلسطينية أو على حساب استقرار الدول المجاورة. هذا اللقاء أكد مجددًا على أن القيادة الأردنية لا تسمح بأي شكل من الأشكال بتصفية القضية الفلسطينية عبر ترحيل الفلسطينيين من وطنهم، بل تؤكد على حقهم في البقاء على أرضهم والدفاع عن حقوقهم المشروعة.

لقد مثل هذا اللقاء اختبارًا جديدًا للمنظومة القيمية العالمية، حيث سقطت الشعارات الغربية حول حقوق الإنسان وحق الشعوب في تقرير مصيرها، في مقابل ثبات موقف القيادة الأردنية التي أكدت أن الحل الحقيقي يكمن في إنهاء الاحتلال وليس في تهجير الضحايا. وكما استطاع جلالة الملك في محطات سابقة حماية الموقف العربي من مشاريع تصفية القضية الفلسطينية، فإنه اليوم يسجل موقفًا تاريخيًا جديدًا يرفض الخضوع للابتزاز السياسي، ويؤكد أن القضية الفلسطينية لم تكن يوماً ورقة للمساومة، فهي قضية حق لن يسقط بالتقادم.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :