فضيلة الصمت ومسؤولية الكلمة
أ.د سلطان المعاني
13-02-2025 10:51 AM
الصمت، هو ذلك المدى الذي يختبئ فيه المرء من ضجيج الكلمات، والحكمة لم تُفسدها العقول المتعجلة. إنّه اتساعٌ للذات في مواجهة العالم، هو فضاء تتكشف فيه الحقائق بعيدًا عن زيف الأحاديث وسراب الظنون. في لحظات الصمت، تتحدث الذات لذاتها، لغة تفيض بالمعاني السامية، التي تحتاج إلى تفاسير أو تبريرات أو اعتذاريات.
حين نختار الصمت، فإننا نمنح أنفسنا امتياز أن نرى بوضوح، بعيدًا عن تشويش الأصوات التي تعلو دون أن تقول شيئًا. الصمت مرآة تعكس عيوبنا بصدق، فنراها دون تحريف، وندركها دون هروب. هو فضيلة نتقن بها فن الإصغاء لأنفسنا. في الصمت، نصغي لأفكارنا وهي تتقلب، نُراجعها دون خوف، ونٌعيد ترتيبها لتُضيء ما كان غامضًا في أعماقنا.
الصمت قوة، وهو السلاح الذي يحمينا من الانجرار في معارك لا طائل منها، ويصون كرامتنا من أن تنزلق في وديان الغضب أو الاندفاع. الصمت قرارٌ واعٍ بأننا لن تنجرف في تيار ما لا يعنينا، ولن نكون جزءًا من ضوضاء لا تحمل أي قيمة. إنه ترياق الروح أمام زيف الأحاديث، هو ما يُجنبنا الانشغال بالتفاهات ويمنحنا فرصة للتأمل في عيوب الآخرين دون أن نُظهرها أو نتورط في انتقادها. الصمت يمنحنا مسافة آمنة، نرى فيها الآخرين كما هم، دون أن نتدخل في حيواتهم أو نُصدر أحكامًا عجولة عليهم. إنه يتيح لنا أن ندرك أن الجميع يحملون في أعماقهم ما يخشون الإفصاح عنه، وأن العيوب ليست إلا وجهًا من أوجه الكمال الإنساني.
حين تكون في حضرة الصمت، تُدرك أن الكلام، مهما كان بليغًا، لا يستطيع دائمًا التعبير عن الحقائق الكبرى. هناك أمور لا تُقال، لكنها تُفهم، لا تُشرح، لكنها تُحس. الصمت هو الوعاء الذي يحتضن هذه الحقائق، يتركها تنضج في أعماقك حتى تُصبح جزءًا من وعيك. الصمت مواجهة من نوع آخر، أكثر رقياً، وهو اختيار لأن تكون سيد اللحظة، لا أسيرها. في الصمت، تتعلم أن لكل كلمة وزنًا، ولكل قول زمانًا ومكانًا. إنه الفن الذي يمنحك القدرة على التمييز بين ما يستحق أن يُقال، وما يُفضل أن يظل في حنايا الفكر وثناياه. الصمت فضيلة نستر بها عيوبنا، وحكمة نفتح بها نافذة على عيوب العالم، نرى من خلالها ما لا يراه المنهمكون في الكلام. هو طريق للسلام الداخلي، حيث يصبح كل شيء واضحًا وبسيطًا، وحيث يُصبح العالم أقل فوضوية وأكثر قابلية للفهم. في الصمت، تُصبح الذات أكثر انسجامًا مع حقيقتها، ويصبح وجودنا أكثر قيمة، وأقرب إلى جوهر الحياة نفسها.
الكلمة، مسؤولية، تحمل من القوة ما قد يرفع إنسانًا إلى ذرى الأمل، أو يسقطه في هاوية اليأس. الكلمة مبتدأ خبره أسلوب تقديمها، وهي فنٌ لا يُتقنه إلا من أدرك أن لما يقوله أثرٌ يتركه في نفوس الآخرين، قد يداوي أو يجرح، يُحيي أو يميت. إنّ كلماتنا، حين نتحدث، لا تقف عند حدود نطقها، فلعلها تمتد إلى ما هو أعمق بكثير، فتلامس قلوب من يستمعون. وقد تكون كلمتنا حقيقة قاسية، لكن قسوتها لا تستلزم أن تُلقى كالصخرة، حيث يمكن للحقيقة أن تكون نسمة رقيقة، تُبَصِّر الناس دون أن تهدم ما تبقى لديهم من قوة. فهناك فرق شاسع بين أن تقول الحقيقة لتفتح نافذة للأمل، وبين أن تقولها فتغلق أبواب الروح أمام من يسمعها.
إنَّ الواقع ليس سهلًا على الدوام، فكثيرًا ما يكون ثقيلاً على النفوس، فمن قال إن دورنا أن نزيد هذا الثقل؟ ومن قال إن علينا أن نحطم من يقف أمامنا، بحجة أن ما نقوله هو الحقيقة؟ الحكمة لا تكمن في نقل الواقع كما هو، بل في تقديمه بطريقة تمنح الآخرين القوة لمواجهته؛ يمكنك أن تقول أصعب الحقائق، لكن بأسلوب يمنح الأمل، متجنباً أسلوب التثبيط والإحباط. فمن يتحدث بواقعية جافة، يسلب من الآخرين نعمة الحلم. أمّا من يتحدث بلغة تحمل الأمل حتى في أعتى المواقف، كأنه يُضيء شمعة في ليلٍ حالك؛ فالكلمات، مهما كانت صغيرة، قد تكون وقودًا لمن انطفأت جذوته. فلتكن كلماتك مثل الغيث الذي يحيي الأرض الميتة، لا كالصقيع الذي يجمد ما تبقى فيها من حياة.
الصمت خيار النبلاء. فإذا لم تكن قادرًا على أن تمنح الأمل، فعلى الأقل لا تزرع اليأس. الصمت، في بعض المواقف، أبلغ من الكلام؛ ويحمل احترامًا لمعاناة الآخرين، وإدراكًا بأن الكلمة إذا لم تكن دواءً، فهي جرح. وإذا لم تكن عونًا، فهي عبء.
تأمل كيف تتفاعل الكلمة مع الروح. الكلمة المحبطة تقع كصخرة ثقيلة على صدر المستمع، تُثقل خطاه وتغلق أمامه مساحات الأمل. أما الكلمة المشجعة، حتى وإن كانت تعبر عن واقع صعب، فهي أشبه برياح تدفع السفينة نحو شاطئ النجاة. الأسلوب هو الفارق بين من يُثقل كاهل المستمعين، ومن يمد إليهم يدًا تساعدهم على الوقوف.
ليس مطلوبًا منك أن تضلل الآخرين، أن تخفي عنهم الحقيقة، أو أن تغرقهم بأوهام لا وجود لها. المطلوب فقط أن تنتقي كلماتك بحب، أن تقول الحقيقة بطريقة تفتح الباب أمام الأمل، لا أن تغلقه. أن تدرك أن الحياة ليست فقط ما نراه، بل ما نحمله في قلوبنا من قدرة على الصمود.
في النهاية، الكلام مسؤولية عظيمة، وميزان دقيق يحتاج إلى حكمة في التعامل. فإما أن تكون كلماتك نورًا يُضيء درب الآخرين، أو أن تصمت بحب، تاركًا لهم مساحة ليجدوا الأمل بطريقتهم. أنت لا تدري كم نفسًا قد تحمل كلماتك، وكم قلبًا قد تزرع فيه الحياة، أو كم حلمًا قد تهدمه. اختر أن تكون مصدر حياة، لا عكس ذلك.