حين تكون أول الواصلين إلى الحزن
محمود الدباس - ابو الليث
12-02-2025 01:02 PM
المعرفة.. تلك الهبة التي يتغنى بها البشر.. يسعون إليها بكل ما أوتوا من قوة.. يتباهون بامتلاكها.. وكأنها درع يحميهم من الجهل والتيه.. لكنها في بعض المواقف.. تتحول إلى عبء ثقيل.. ينوء به حامله.. حين يكتشف أن ما يظنه الآخرون بشرى.. هو في الواقع ناقوس خطر.. أو حين يرى ما لا يراه غيره.. فيدرك الحقيقة قبل أن يلتفت إليها أحد.. لكنه مضطر للوقوف بينهم.. متصنعاً عدم الفهم.. أو مشاركة الفرحة.. رغم يقينه أنها مؤقتة..
في ذلك المساء.. حين وقفت بين إخوة يتهللون فرحاً بارتفاع نبض أخيهم المريض.. كنت أعلم.. أن ما يرونه انتصاراً لقلب اخيهم.. هو في الحقيقة إشارة إنذار.. كنت أقف بينهم.. أشاركهم الابتسامة الصامتة.. وأنا أعلم أن قلب ذلك الشاب المسكين.. يحترق في آخر محاولاته للحياة.. لم أستطع أن أنطق.. لم يكن هناك جدوى من حديثي.. كيف لي أن أبدد فرحتهم.. بحقيقة لا يريدون سماعها؟!.. غادرت وقلبي مثقل بذلك الشعور القاتم.. لم تمضِ ساعتان.. حتى جاءني الخبر الذي كنت أتوقعه.. وحين جاء وقت العزاء.. وقف أحد إخوته أمامي متسائلاً.. لقد رأيت الصمت في عينيك.. لماذا لم تقل شيئاً حينها؟!..
هذا هو الوجه الآخر للمعرفة.. حين يصبح صاحبها غريباً بين الناس.. يراهم يركضون خلف سرابٍ يظنونه ماءً.. وهو يعلم أنه محض وهم.. لكنه لا يستطيع إيقافهم.. حين يسمع ضجيج الحماسة في الشوارع.. والمجالس.. حول حدث سياسي.. أو اقتصادي أو حتى مصيري.. ويرى كيف يطير الناس فرحاً بما يظنونه نصراً.. أو خيراً.. وهو يعلم أن ما يجري في الكواليس.. يروي حكاية أخرى.. حين تصله المعلومة من مصدر مطلع.. أو يستنتج بعقله ومن خبرته.. ما لم يدركه الآخرون.. لكنه يدرك في الوقت ذاته.. أن حديثه لن يُسمع.. أو إن سُمع.. فلن يُصدق.. وأن الحقيقة في بعض الأحيان.. تصبح نشازاً بين أصوات الهتاف والتصفيق..
المعرفة عبء حين تفرض على صاحبها العيش في عزلة ذهنية عن محيطه.. حين يجد نفسه مضطراً للصمت.. وسط زحام الأصوات التي لا ترى إلا ما تحب أن ترى.. حين يكون أمام خيارين.. كلاهما مر.. إما أن يغني منفرداً خارج السرب.. بصوت لا يجد صدى.. أو أن يتماهى مع اللحن السائد.. حتى لا يُنظر إليه كالغريب بين قومه.. فيبتسم.. رغم علمه بأن الفرح الذي يراه أمامه.. لن يدوم..
من يدرك الحقيقة مبكراً.. لا يحظى بفرصة الاحتفال.. يعيش الألم قبل غيره.. ويستعد للفقد قبل وقوعه.. يرى الانهيار.. وهو ما زال في بداياته.. ويدرك الخديعة.. وهي في أوج بريقها.. فلا يسعد.. بما يسعد به الآخرون.. ولا يشاركهم أحلامهم.. لأنه يعلم يقيناً أنها مجرد غمامة.. ستتلاشى مع أول هبة ريح.. وليس أقسى على النفس.. من أن تمتلك عيناً ترى بوضوح.. وسط عالم.. لا يريد أن يُبصر..