هنالك أنواع من الجرائم تحتاج إلى عقاب سياسي قبل العقاب القضائي والقانوني، لأن المجرمين هنا لا يقومون بأفعال خارجة عن القانون من اختلاس وسرقة وغيرها، بل ينزعون من الأردنيين الثقة بالدولة، ويزرعون الإحباط واليأس من إمكانية إنجاز مبادرات وأفكار تنفع الناس، ويقتلون في الناس خطاب الأمل والتفاؤل ويجعلونهم ينظرون إلى كل فكرة إيجابية على أنها مشروع سرقة وثراء غير مشروع وفساد.
المثال الأول فكرة "سكن كريم" التي كانت وما تزال فكرة رائدة لتوفير آلاف الشقق لأبناء الطبقة الفقيرة والمتوسطة، وأن يدفع المواطن قسطا معتدلا لتسديد ثمن الشقة التي تصبح ملكه وبسعر قليل، لأن الدولة توفر الأرض والبنية والتحتية. ولو نجت الفكرة ممن أفسدوها، لكانت ذات تأثير كبير في مساعدة أبناء الطبقتين الفقيرة والمتوسطة على تكاليف الحياة، وتمكينهم من امتلاك بيت والاستفادة من أراضي الدولة، لكنهم أفسدوها وتحولت إلى قضية فساد في هيئة مكافحة الفساد والنواب ولدى الناس.
والمثال الثاني شركة "موارد" التي تدير أموال الدولة، وبخاصة القوات المسلحة. وكان الأمل أن توفر استثمارات للدولة، وتنجز مشاريع كبرى في الزرقاء وعمان، وتقوم بالاستثمار في أراضي الدولة ومقدراتها. ولأنها شركة تدير أموال الجيش، فإننا كنا متفائلين أن كل السمات الإيجابية للمؤسسة العسكرية ستنعكس على هذه الشركة، ليكتشف الأردنيون أن الفساد قد وصل وتربع وفعل فعله، وأن من مارسوا هذا الفعل، ولا نعرف من هم إلى أن يقول القضاء كلمته، هم أشخاص قتلوا روح الأمل والتفاؤل، وزرعوا عدم الثقة ليس في إدارة شركات استثمارية بل في الأشخاص الذين كانوا يديرون المشروع؛ فحتى من كان منهم شريفا عفيفا فإنه كان في موقع لم يكتشف أو لم يستطع منع الفساد.
وحتى قضية السجين خالد شاهين التي ما تزال التحقيقات فيها لم تظهر للأردنيين، فإنها إن كانت ملف فساد ودفع أموال فهي كارثة أن تستطيع حقائب الدولارات فتح الحدود لسجين لكي يغادر من دون وجه حق؛ وإن كانت إهمالا وسوء إدارة وضعف مسؤولين، فإنها أيضا كارثة وكفيلة بزرع الإحباط. وكلا الأمرين تدفع ثمنهما الدولة في علاقتها مع الناس.
الأمثلة السابقة للذكر وليس الحصر، لكنني أتمنى أن تكون هنالك طريقة لإيقاع العقوبة الوطنية على كل مسؤول ترتكب في عهده وتحت ولايته جرائم من ذلك النوع القاتل، والتي تبقى الدولة تدفع ثمنها وطنيا عاما بعد عام. ونتمنى أن تكون هناك قائمة سوداء لدى صاحب القرار تمنع أي مسؤول، مهما كان وزنه، من الذين يزرعون الإحباط واليأس بضعفهم أو فسادهم، من تولي أي موقع بعد أن يكون قد ارتكب ذلك النوع من الجرائم، وبخاصة تلك التي ليس لها تكييف أو وصف قانوني.
خطاب التفاؤل والأمل نحتاجه جميعا حتى تستمر الحياة، لأن البديل هو الإحباط الذي يعطل قدرات الصادقين، ويفتح الباب للحاقدين لممارسة مزيد من التخريب. لكن الدور الذي يمارسه الفاسد أو الصالح الضعيف أكبر من خراب الحاقدين. والنبي الكريم عليه السلام كان يستعيذ بالله من التقي العاجز، لأن تقواه قد تردعه شخصيا عن فعل الخطأ، لكنه لا يملك منع الفساد أو إغلاق الطريق على الأشقياء. وأعود مرة أخرى إلى المقولة القديمة، بأن المسؤول الضعيف خطر على البلاد والعباد بقدر لا يقل عن الفاسد.
(الغد)