facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




رَحّال: في مديح التيه وسحر الترحال


أ.د سلطان المعاني
10-02-2025 11:58 AM

الرحلةُ أشبهُ بشرفةٍ مطلّةٍ على العالم، نافذةٌ مفتوحةٌ على اللانهائيّ، حيثُ لا شيء يقفُ ساكنًا، ولا شيءٌ يبقى كما هو. يُقال إن الإنسانَ يولد مرتين؛ مرة حين يخرجُ من بطنِ أمه، ومرة حين يشدُّ الرحالَ إلى المجهول، هناك حيث تتلاشى الحدودُ بين الواقعِ والحلم، وحيث يتبددُ المألوفُ ليكشفَ عن وجهٍ جديدٍ لم يكن بالحسبان. فالسفرُ انعتاقٌ من الذات الأولى، وتحولٌ خفيٌّ إلى ذاتٍ أخرى، أكثر وعيًا، وأكثر شفافية، وأكثر قدرةً على الدهشة. في كل خطوةٍ يخطوها المرءُ بعيدًا عن موطنه، هي خطوةٌ أخرى إلى داخله، في مناطق لم يسبق أن استكشفها من قبل. كأن السفر ليس إلا مرآةً كبرى، يرى فيها المسافر انعكاسه مشوّشًا أول الأمر، لكنه ما يلبث أن يتضح، كأنما تنجلي عنه طبقات العادة واليقين. ولعل أجمل ما في الرحيل، أنه يحرر الإنسان من ثِقلِ المعرفةِ المسبقة، من أحكامه الجاهزة عن العالم، ويجعله أقرب إلى الفطرة، إلى ذلك الفضول الذي يجعل الطفل يسأل عن كل شيء، ويحدّق طويلًا في التفاصيل التي لم يعد الكبار يلتفتون إليها.

حين يتجول المسافر في مدينةٍ لم يزرها من قبل، تصبح الطرقات نصًا مفتوحًا، والوجوه ألغازًا قابلةً للتأويل. يمر بالمقاهي فيراها كأنها مسرحٌ صغيرٌ يعرض يوميات المدينة، ويصغي إلى اللغات التي لم يألفها كأنها موسيقى مجهولة، يحاول أن يفهمها لا بعقله، بل بقلبه، كما يفهم المرء الإيقاع قبل أن يفهم المعنى. وهناك، بين الأزقة الضيقة والأسواق الصاخبة، وبين الجدران التي تختزن تاريخًا لم يكن له يومًا، يشعر بأنه أقرب ما يكون إلى نفسه، وكأن الغربة هي المفتاح السريّ لفهم الداخل، وكأن الضياع المقصود هو السبيل الوحيد لإيجاد شيء لم يكن يبحث عنه.

المسافر الحقيقي لا يبحث عن الأماكن، بل عن إحساسٍ جديد بالحياة، عن لحظةٍ مباغتة تقطع عليه تسلسل أفكاره، وتضعه في مواجهة إحساسٍ صافٍ، غير مفلتر، غير مكرر. ربما يكون ذلك الإحساس في مشهد البحر عند الغروب، حيث تمتزج السماء بالماء في امتدادٍ لا نهائي، كأن الكون كله يتلاشى في نقطة ضوء بعيدة. وربما يكون في لقاء عابر مع شخصٍ لن يراه مرة أخرى، لكنه يترك أثرًا يشبه أثر وشمٍ خفيف، لا يبهت تمامًا مهما مضى من الوقت. وربما يكون في محطة قطارٍ ما، حين يتوقف فجأةً ويدرك أنه لا ينتمي إلى مكانٍ واحد، وأنه، منذ خطا أولى خطواته نحو الرحيل، لم يعد ينتمي إلا إلى الطريق نفسه.

أولئك الذين لم يسافروا يومًا قد يظنون أن الرحلة تقتصر على المسافات، لكن من عرف متعة الترحال يدرك أن السفر لا يُقاس بالكيلومترات، بل بالأشياء التي تتغير في الداخل. فهناك من يسافر إلى أقصى الأرض لكنه يعود كما غادر، وهناك من يخطو بضع خطوات خارج حدوده المعتادة، لكنه يعود مختلفًا تمامًا، كأنما مرّ بمسافة لا تُرى، لا تُحسب بالأميال، بل بالتحولات التي تنشأ فجأة، دون أن يشعر، كأن الطريق نفسها قد أعادت تشكيل روحه من جديد.

في الترحال، لا يكون الزمن خطًّا مستقيمًا، بل يتحول إلى دوائر تتقاطع فيها الذكرى بالحاضر، والغريب بالمألوف. فجأة، يجد المسافر نفسه في مكانٍ لم يره من قبل، لكنه يشعر أنه يعرفه، كأنه قرأ عنه ذات مرة، أو رآه في حلمٍ قديم. وربما العكس، قد يمرّ في شارعٍ يبدو مألوفًا حدّ الدهشة، لكنه يعجز عن تذكر متى رآه، أو كيف صار محفورًا في ذاكرته. وكأن الأماكن لا تخضع تمامًا للمنطق، بل تمتلك حيواتٍ أخرى، تظهر وتختفي وفقًا لأحاسيس من يعبرها.

وحين يحين موعد العودة، لا يعود المسافر حقًا. يعود جسده، لكنه يترك خلفه أجزاءً مبعثرة، فتاتًا من روحه في كل مكانٍ مر به. في المقهى الذي جلس فيه يتأمل المارة، في المحطة التي انتظر فيها قطارًا لم يأتِ، في الحديقة التي سار فيها وحيدًا وهو يفكر في اللاشيء. وحين يضع حقائبه، يدرك أن الرحلة لم تنتهِ بعد، بل بدأت من جديد، داخل رأسه، حيث ستظل المدن التي زارها حاضرة في ذاكرته، وحيث ستبقى الطرقات التي مشى فيها تمتدُّ داخله كأنها لم تغب يومًا.

السفر حركة، وحالة. قد يسافر الإنسان دون أن يبرح مكانه، حين يفتح كتابًا أو ينصت إلى حكاية أو يتأمل مشهدًا يثير في داخله إحساسًا بالتيه الجميل. وربما كان أجمل ما في الترحال، أنه يعلّمنا أن نرى كل شيء بعين المسافر، حتى حين نعود، حتى حين نظلُّ في أماكننا، لأن العالم، مهما بدا ثابتًا، يبقى في تغيرٍ دائم، تمامًا مثلنا.

أيُّ شغفٍ ذلك الذي يجعلُ الرحالة يودّعون مدنهم وكأنهم يودّعون يقينًا راسخًا، ليغرقوا في مدنٍ أخرى لا تعرفهم ولا يعرفونها؟ أيُّ لذةٍ تكمنُ في أن يكون الإنسانُ غريبًا، في أن يمشي في شوارع لا تحملُ ظلاله، ويجلسَ على مقاعدَ لم يَشهدِ احتراقَ لحظاته الماضية؟ كأن السفرَ محاولةٌ للتخلي عن الذاكرة، أو لعله بحثٌ مستمرٌّ عن ذاكرةٍ جديدة، عن صورةٍ أخرى للذات تنمو بعيدًا عن الجدرانِ التي احتوتها يومًا.

الغريبُ لا يُسأل عن ماضيه، لا يحملُ معه تاريخًا يفسّر به وجوده، ولا يحتاجُ إلى تبريرِ خطواته. وحين يسير في الطرقات، لا ينتبه إليه أحد، ولا يتوقفُ العابرون ليسألوا من أين جاء، وإلى أين يمضي، فكأنما أصبح متحررًا من ثِقلِ الانتماء، من عبء الأسماء والوجوه التي تعرفه. ثمة متعةٌ غامضةٌ في أن يكون المرء مجهولًا، في أن يختفي بين الزحامِ بلا أثر، في أن يكون شاهدًا صامتًا على الحياة، متفرجًا لا يشارك في مشهدٍ لا ينتمي إليه، وكأنما أصبح جزءًا من لوحةٍ لم يرسمها، لكنه يستشعر تفاصيلها بعمقٍ لا يدركه أصحابها.

في المدن الجديدة، يولدُ للإنسانِ زمنٌ جديد، توقيتٌ مختلف لا يخضعُ لساعته المعتادة، بل تديره الدهشة. تصبحُ الأيام أطول، لأن كل لحظةٍ فيها تحفرُ انطباعًا أولًا، وتصير الشوارع أوسع لأنها تتسع لعينيه اللتين لا تزالان تكتشفانها. حتى الهواء يبدو مختلفًا، حتى وقع الخطى على الأرصفة، حتى الصمت في ساعات الفجر. إن السفرَ يحرّرُ الحواسَ من بلادة التكرار، يجعلها أكثر يقظة، كأنها تستعيد وظيفتها الأولى، حين كان كل شيءٍ جديدًا، حين كانت الألوان أكثر حدة، والروائح أكثر حضورًا، والصور أكثر قدرةً على البقاء في الذاكرة.

ليس الغريب من لا يعرفُ المكان، بل من لا يعرفُ كيف يكون جزءًا منه. ولهذا، فإن المسافر الحقيقي لا يسعى إلى الاندماج، بل إلى المراقبة، إلى التقاط التفاصيل الصغيرة التي لا يلتفتُ إليها أهلها. إنه يبحثُ عن لحظاتٍ غير مكتوبة، عن مشاهدَ صامتةٍ لا تدخلُ في أدلة السفر، عن النظراتِ العفوية، والابتساماتِ العابرة، والحواراتِ التي لا يفهمها لكنه يستشعر نبراتها. ربما لهذا يفضلُ الرحالة الطرق الجانبية على الشوارع السياحية، والمقاهي الصغيرة التي لا يرتادها الغرباء، لأنهم لا يبحثون عن المكان كما هو موصوف، بل عن المكان كما هو حيٌّ في لحظته العابرة.

وكم يشتهي المرء أن يكون ضائعًا، أن يمشي بلا وجهةٍ محددة، أن يتركَ خطواته تقوده كيفما تشاء الصدفة. هناك متعةٌ في أن يفقد الإنسان إحساسه بالاتجاه، أن يخرجَ من نظام الخرائطِ المدروسة، أن يكون رهينًا لنزوات الطريق، ففقدانُ الطريق ليس ضياعًا، إنه نوعٌ آخر من الحرية، هو أن يكتشفَ الإنسان ما لم يكن يبحث عنه، أن يصلَ إلى مكانٍ لم يكن في خطته، أن يجدَ نفسه أمام مشهدٍ لم يتوقعه، لكنّه سيبقى محفورًا في ذاكرته أكثر من أي معلمٍ سياحيّ.

في السفر، يتخفف الإنسانُ من الأشياء التي ظنّها ضرورية. حقيبةٌ صغيرة تكفي، وعددٌ قليلٌ من الملابس، لا مكان للزائد عن الحاجة، لا مكان لما يربكُ الحركة. وحين يتحررُ الجسدُ من الأعباء، تتحررُ الروح أيضًا. يشعر المسافرُ أن ما كان يراه أساسيًا، ليس إلا كماليات، وأن ما ظنه ترفًا، قد يكون هو الأصل. ربما لهذا السبب، يعود المسافر مختلفًا، لأنه عاد بأمتعةٍ أقل، بأفكارٍ أخف، بحياةٍ أكثر اتساعًا، كأن الطريق التي ابتلعت قدميه قد جردته من زوائدِ نفسه، من كل ما لم يكن ضروريًا حقًا.

السفرُ مغامرةً، رحلةٌ نحو الداخل. حين يسيرُ المسافرُ في الطرقاتِ وحيدًا، حين يجلسُ في مقهى غريبٍ ويصغي إلى أصواتٍ لا يفهمها، حين يرى غروبًا في مدينةٍ لم يعرفها من قبل، يشعرُ أن المسافاتِ الحقيقية هي تلك التي تفصلُ بين الإنسان ونفسه. في السفر، تقتربُ الذاتُ من حقيقتها، لأن الصخبَ الذي يحيطُ بها في مدينتها الأولى يخفت، ولأنها تتعرّى من كل الأدوارِ التي لعبتها سابقًا، وتعودُ إلى جوهرها الأول، إلى حقيقتها التي كانت غائبةً وسط ضوضاءِ الأيام.

وحين تنتهي الرحلة، لا تنتهي. تبقى المدن في الذاكرة، تبقى الشوارع ممتدةً في الذهن كأنها لم تغب، تبقى الوجوهُ التي عبرت سريعًا أكثر حضورًا من وجوهٍ عاشرتنا طويلًا. ولهذا، فإن المسافرَ الحقيقي لا يعودُ أبدًا كما كان، لأنه حين غادر، تركَ خلفه شيئًا من روحه، وحين عاد، عاد بشيءٍ آخر لم يكن فيه.

في السفر، يكون الرحالةُ شاهداً على العالم، ويكون جزءًا من تحولاته. المدنُ التي نمرُّ بها تغيّرنا كما نغيّرها، والأمكنةُ تتركُ فينا بصماتها كما نترك فيها خطواتنا. ربما لهذا السبب، لا يعودُ المسافرُ كما كان، إذ إن كلَّ خطوةٍ يخطوها في أرضٍ غريبةٍ، تسلبُ منه جزءًا من ماضيه، وتمنحه جزءًا جديدًا من الحاضر، كأن الرحلة عملية استبدالٍ مستمرة للروح، كأنها نحتٌ بطيءٌ في جوهر الإنسان حتى يصبح كيانًا متعدد الطبقات، كأنه مدينةٌ يسكنها ألف مسافر، لكلٍّ منهم حكايةٌ مختلفة.

وحين نقرأ أدبَ الرحلات، لا نبحثُ عن وصفٍ باردٍ للمكان، بل نفتّش عن الحيرة الأولى التي ملأت عينَ الرحالةِ وهو يطأ أرضًا لا تشبه شيئًا مما عرفه. تلك اللحظةُ التي تتلاشى فيها المسافةُ بين الخوف والافتتان، بين الغرابة والانجذاب، هي ما يصنعُ جوهر التجربة. لم يكن ابن بطوطة مجرد مؤرخٍ للمسافات، بل كان عاشقًا للأمكنةِ التي لم تخلُ من سحرٍ وخرافة، ولم يكن ماركو بولو مجرد تاجرٍ يسجّل ملاحظاته، بل كان صيّادًا للأعاجيب التي لا يصدّقها أحد، تمامًا كما لم يكن رفاعة الطهطاوي حين زار باريس مجرد طالبِ علم، بل كان مزيجًا من دهشةٍ ونقد، من انبهارٍ ورفض، من توقٍ إلى فهم ما يجعل هذا العالم يسير في اتجاهاته المختلفة.

أيُّ سرٍّ يسكنُ الطرقَ البعيدة، يجعل الإنسانَ كلما ابتعدَ، ازدادَ قربًا من ذاته؟ أهو التعبُ الذي يرهق الجسد فيجعل الروح أكثر شفافية؟ أم هو شعورُ الضياعِ الذي يجعل الإنسان أكثر قدرةً على اكتشاف حقيقةِ الأشياء؟ في السفر، يختبر الإنسانُ هشاشته الأولى، إذ يصبحُ بلا دروع، بلا يقينٍ كامل، بلا انتماءٍ محدد. ولعل أجمل ما في الرحلة، أنها تعلّمنا أن لا وطنَ ثابت، وأننا، في نهاية الأمر، كائناتٌ محمولةٌ على رياحٍ لا تهدأ، نبحثُ عن شيءٍ ما، قد لا نجده أبدًا، لكننا سنظلُّ نبحث.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :