خطابي لعقول شرفاء الأمة .. هل نستطيع وقف التهجير؟!
محمود الدباس - ابو الليث
09-02-2025 10:30 AM
حين يولد الإنسان.. يولد معه الحنين إلى المكان.. ذلك الشعور العميق.. الذي يجذبه نحو تربته الأولى.. نحو الأزقة التي شهدت أولى خطواته.. والوجوه التي ألفها قبل أن يعي معنى الألفة.. لكنه أيضاً.. كائن يسعى للأفضل.. يبحث عن الكرامة.. وعن العيش الذي لا يثقل كاهله بالهموم.. فإن تعذرت الحياة في موطنه.. بدأ يفكر بالرحيل.. وما بين العاطفة والمنطق.. يجد نفسه بين خيارين.. أحلاهما مر.. فإما أن يهاجر مجبراً.. أو يهاجر محتاجاً.. وكلاهما وجهان لعملة واحدة.. التهجير.. وإن اختلفت المسميات..
يرى أهل الاختصاص أن الهجرة تنقسم إلى نوعين.. قسرية وطوعية.. أما القسرية.. فهي التي تُنتزع من الإنسان انتزاعاً.. كأن يُطرد من أرضه بالقوة.. أو يُحاصر.. حتى لا يبقى أمامه خيار.. كتلك الهجرات التي شهدها التاريخ في حروب الاحتلال.. والاستعمار.. حين أُجبر السكان الأصليون.. على ترك أوطانهم تحت التهديد والمجازر..
أما الطوعية.. فهي تلك التي يختارها الإنسان بنفسه.. حين يرى أن في الرحيل فرصة لحياة أفضل.. ولكن.. هل هي حقاً طوعية؟!.. أم أن الحاجة.. هي التي تفرضها؟!.. فلو خُير الإنسان.. بين البقاء بكرامة ورغد.. أو الرحيل إلى مجهول.. يحمل له احتمالات متضاربة.. أيهما سيختار؟!.. لذا فإن "الهجرة الطوعية" برأيي.. ليست سوى مصطلحاً مخففاً.. لما هو في جوهره "هجرة الحاجة"..
وإن كان لنا في التاريخ عبرة.. فهجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أعظم مثال.. حين وقف يخاطب مكة قائلاً.. "مَا أَطْيَبَكِ مِنْ بَلَدٍ وأَحبَّكِ إلَيَّ، وَلَوْلَا أَنَّ قَوْمِي أَخْرَجُونِي مِنْكِ مَا سَكَنْتُ غَيْرَكِ".. فقد خرج مكرهاً.. لا مختاراً.. ورغم أن المدينة المنورة.. أصبحت موطنه بعد الهجرة.. إلا أن قلبه ظل معلقاً بمكة.. وهكذا هو حال كل من يُجبر على ترك أرضه.. قد يعتاد المكان الجديد.. لكنه لن يكون موطنه الأول أبداً.. وهذا ما يسعى إليه أعداؤنا اليوم.. أن يُجبر الفلسطيني على مغادرة وطنه.. حتى يعتاد الغربة.. وحتى تصبح العودة.. مجرد ذكرى بعيدة..
في عالم السياسة والاجتماع.. هناك نظريات تفسر هذه الظاهرة.. من بينها نظرية "الدفع والجذب" التي تتحدث عن العوامل.. التي تدفع الإنسان إلى الهجرة.. كالفقر والبطالة.. وانعدام الأمن.. مقابل العوامل التي تجذبه إلى بلد آخر.. كالاستقرار والفرص الاقتصادية.. وهناك أيضاً "نظرية رأس المال البشري".. التي ترى أن الإنسان يهاجر بحثاً عن استثمار قدراته في بيئة.. تمنحه العائد الأفضل.. لكن ما يغفله الكثيرون.. هو أن هناك من سيستغل هذه العوامل.. لخلق موجات هجرة ممنهجة.. كما يحدث اليوم في فلسطين.. حيث يعمل العدو.. على صناعة بيئة طاردة بكل ما أوتي من أدوات.. تدمير.. حصار.. إفقار.. حتى يجعل الحياة في غزة.. ضرباً من المستحيل.. فلا يجد الناس أمامهم.. إلا خيار الرحيل.. وهنا يكمن الخطر الحقيقي.. فالهجرة حين تكون حاجة.. تتحول مع الزمن.. إلى واقع لا عودة منه..
لكن ما غفل عنه العدو.. وبغض النظر عمّا هو رأينا فيما حدث.. وكيف حدث.. أن غزة ليست رقعة جغرافية يسهل طرد سكانها منها.. وليست جموعاً من الناس.. يبحثون عن النجاة فحسب.. بل هي فكرة.. هي عقيدة.. هي معقلٌ لمقاومة لم تكتفِ بالصمود.. بل فرضت معادلة جديدة.. معادلة أن الأرض لا تُحرر بالانتظار.. بل بالمواجهة.. وفي الحرب الأخيرة.. كانت غزة بمقاومتها.. صخرة تحطمت عليها أوهام العدو.. في كسر الإرادة الفلسطينية.. كان يظن أن ضرباته ستدفع أهلها للاستسلام.. فإذا به يواجه شعباً لا ينكسر.. بل يزداد قوة مع كل ضربة.. وأصبحت المعادلة واضحة.. من يصمد ينتصر.. ومن يترك أرضه يخسرها إلى الأبد..
ليس عبثاً إن أطال العدو أمد الإعمار في غزة.. وليس مصادفة أن تقترن الحرب دوماً بحصار طويل.. هم لا يريدون فقط.. أن يهدموا المباني.. بل يريدون أن يهدموا الإرادة.. أن يجعلوا الإنسان يختار الرحيل بنفسه.. فيظن أنه فعل ذلك بإرادته.. لكنه في الحقيقة.. وقع في فخ التهجير غير المباشر.. كما حدث لكثير من الشعوب قبلهم.. فالنكبة الفلسطينية لم تكن مجرد احتلال أرض.. بل كانت أيضاً مشروعاً لتهجير العقول والطاقات.. حتى تصبح فلسطين خالية.. إلا من قلة لا تستطيع الصمود وحدها..
والسؤال.. كيف نوقف هذا المخطط؟!.. كيف نكسر هذه الدائرة الخبيثة؟!.. لا يكفي أن نندد ونشجب.. بل علينا أن نمنح أهلنا في غزة وفلسطين.. ما يجعلهم يصمدون.. أن نسرع في الإعمار.. حتى لا تصبح الحاجة إلى الرحيل.. خياراً مغرياً.. أن نوفر لهم سبل العيش الكريم.. حتى لا تكون الهجرة طوق نجاة.. أن نجعلهم يشعرون أن لهم سنداً.. يمتد خارج حدود الجغرافيا.. فلا يكونوا وحدهم في المعركة.. فكلما استطعنا تقليص شعور الحاجة لديهم.. كلما قلّت احتمالات الهجرة.. وكلما ازداد صمودهم.. كلما اقتربنا خطوة نحو كسر مشروع التهجير إلى الأبد..
إن ما دفعه أهل فلسطين من دماء وتضحيات.. ليس مجرد ثمن للحرب.. بل هو لبنة في مشروع التحرر الأكبر.. مشروع أعاد القضية الفلسطينية إلى الواجهة.. وأثبت أن هذا الاحتلال ليس قدراً محتوماً.. وأنه يمكن كسره كما كُسر غيره عبر التاريخ.. فإما أن نبني فوق هذه اللبنة.. صرحاً من الصمود والعزة.. أو أن نتركها لتُدفن تحت ركام الحاجة واليأس.. والاختيار ليس لهم وحدهم.. بل لنا جميعاً.. فمن يظن أن التهجير سيقف عند حدود غزة.. فهو واهم.. إذ أن المخطط أوسع.. والنار إن اشتعلت في بيت جارك.. ولم تطفئها.. فلن يطول الأمر.. حتى تصل إليك..
لقد شعر أهل فلسطين بالخذلان وقت الحرب.. حتى وإن كان رغماً عنا.. فلنمنحهم اليوم ما يمحو ذلك الشعور.. لنثبت لهم.. أن الأمة لم تتخلّ عنهم.. وأننا وإن عجزنا عن صد الصواريخ عنهم.. فلن نعجز عن دعمهم في صمودهم.. فالصراع اليوم ليس مجرد معركة على الأرض.. بل هو معركة على الإرادة.. ومن يبقى صامداً فوق أرضه.. فقد انتصر.. حتى وإن ظن العالم غير ذلك..