حِمْلُ الذاكرة الذي لا يموت
أ.د سلطان المعاني
07-02-2025 09:53 AM
الإنسان كائنٌ عابرٌ في الجغرافيا والتاريخ، يحمل فوق كتفيه أثقال الأسئلة، ويجر خلفه خيوط الذاكرة، يتأرجح بين الانتماء والضياع، بين الثبات والتحوُّل. كلما حاول تعريف نفسه، انزلق المعنى من بين أصابعه كالماء، وكلما ثبت قدميه في أرضٍ ما، اهتزّت تحته كأنها تنفيه بلا رجعة.
الإنسان في جوهره مشروع دائم للبحث، رحلة لا تعرف وجهتها النهائية، ومسار يتحدد فقط حين يُنظر إليه من نقطةٍ بعيدة، حيث تتضح معالم الغياب أكثر من الحضور. ولم تكن الهوية يوماً بطاقة تُحمل في الجيب، ولا خريطة معلقة على الجدار، فهي تراكم مستمر، وانسياب بين ماضٍ لا يهدأ، وحاضر يتشكل وفقاً لرياح المتغيرات. وهي ذاكرة تحترق وتنطفئ، ولغة تتحلل ويُعاد صياغتها، وشعور يفيض ثم ينحسر مع مواسم الحنين والخذلان؛ فبعض الهويات تُصاغ من اليقين، كجذور تضرب عميقاً في الأرض، وأخرى تظل كأشجارٍ بلا ظل، لا تحمل في حقيبتها سوى أسماء تتبدل بمرور الوقت، وملامح تتلاشى كوجوه المارة في زحام مدينةٍ مجهولة.
ولم يكن الوطن يوماً بقعةً مرسومةً على الورق، وسرداً يفرض نفسه على النشيد والكتب، إنَّه فكرةٌ تتسرب إلى أعماق الإنسان، تشكّله بصمت، تصنع ذاكرته، تتركه في حالة شدٍّ وجذب بين التمسك بها، والخوف من أن تكون قيداً يمنعه من الطيران؛ فهناك من يحملون أوطانهم معهم كأحجارٍ ثقيلة، ولا يستطيعون التخلص منها، حتى لو أرادوا، وهناك من تلاحقهم أوطانهم كأطياف لا يملكون إلا الركض خلفها. في الحالين، يظل الوطن أكبر من مكان، وأعمق من حدود، وأقوى معنىً من مجرد انتماء سطحي، أو هوية جامدة. وقد يكون المنفى مكاناً بعيداً، وقد يكون حاضراً في داخل الإنسان؛ كهاجسٍ متكرر، ومسافة بينه وبين ذاته، كإحساس بأن الأبواب التي كان يجب أن تقود إلى الراحة قد أُغلقت منذ زمن، وأن الممرات التي سلكها لم تكن سوى انعكاسات لطرقٍ أخرى لم يُكتب له أن يعبرها. فليس كل غريبٍ منفياً، وليس كل منفيٍّ غريباً، فالغربة أحياناً تسكن في البيت الواحد، في المدينة التي ولدت فيها، في اللغة التي تتحدثها، حين يصبح كل شيء مألوفاً لكنه يفتقد الدفء الذي يمنحه الحياة. فهذا العالم يمضي بلا هوادة، يُعيد تشكيل البشر كما يُعيد نحت الجبال عبر الزمن. قد تتغير الأسماء، وتتمزق الخرائط، وتتلاشى الحدود، وَيَظَلُّ سؤال الإنسان عن ذاته ثابتاً كأنّه نقطة لا تتزحزح وسط فوضى الاحتمالات. قد يكون البحث عن الحقيقة مرهقاً، لكنه السبيل الوحيد لجعل هذا العبور أقل قسوة، ولإضفاء شيء من المعنى على هذا التيه الممتد بين أول خطوة وآخر أثرٍ يُمحى خلفنا.
نحن كائناتٌ متشبثةٌ بالذاكرة، نحملها فوق أكتافنا كأنها ميراثٌ لا فكاك منه، نعيش داخلها أكثر مما نعيش في الحاضر، ونُعيد تشكيلها وفق ما يلائم جراحنا وحنيننا. الذاكرة صناعةٌ مستمرة، إعادة تكوينٍ لأحداثٍ ربما لم تقع تماماً كما نتخيلها، لكنها تبقى لنا، تنحت ملامح وجودنا، تُشكّل هويتنا، وتُعمّق غربتنا في عالمٍ يتغير أسرع مما نُدرك. وكلما مضينا في الزمن، ازداد انجذابنا للماضي، كأن الحياة تدفعنا دائماً للوراء بينما تجرنا الأيام للأمام. والغريب في الأمر أن الماضي ليس ثابتاً، فهو يتلون مع الوجدان، ويتبدل وفق مزاج الذاكرة، فما كان موجعاً يصبح حنيناً، وما كان عادياً يتحول إلى رمزٍ للفقد. فنحن لا نتذكر الأشياء كما كانت، بل كما أردنا أن تكون، نُضفي عليها شيئاً من البريق، أو نُحَمِّلُها ظلال الحزن، كأن التذكر هو فعل إبداعٍ ذاتي، لا مجرد استعادةٍ لما ضاع.
فهل الذاكرة وطنٌ أم منفى؟ هل هي ملاذٌ آمنٌ نعود إليه كلما ضاقت بنا الأزمنة، أم أنها قيدٌ يُحاصرنا، يجعلنا نعيش في ظلال ما مضى أكثر مما نعيش في الواقع؟ كثيرون منّا يظنون أن الماضي يحمل أجوبةً لمتاهات الحاضر، لكنهم يغفلون أن الزمن لا يمنحنا إجابات، بل يراكم أسئلتنا، ويتركنا نتخبط في احتمالاتها. فالإنسان كائنٌ يسكنه التيه، لا ينتمي تماماً لأي لحظة، يفتقد ما لم يكن، ويهرب مما هو كائن، يبحث دائماً عن بابٍ يقوده إلى نفسه، لكنه كلما ظن أنه وجد الطريق، اكتشف أنه كان يركض داخل دائرة مغلقة. والوطن كالذاكرة، فهو الشعور بالوجود، هو تلك اللحظات التي تمنحك يقين الانتماء ولو لثوانٍ عابرة.
لهذا، لا يكون الوطن حقيقياً إلا في اللحظات التي نعيشها بكامل حضورنا، بلا قلقٍ مما سيأتي، ولا حنينٍ لما مضى. لكنه أيضاً قد يتحول إلى حملٍ ثقيلٍ على الروح، خصوصاً عندما يصبح وهماً نطارده، أو عندما يتحول إلى سجنٍ لا نملك مفاتيحه. هناك من يحملون أوطانهم معهم كأنها ندوب، وهناك من يمضون بلا أثرٍ كأنهم لم يكونوا جزءاً من أي مكان. لكن في الحالتين، يبقى الوطن أكبر من حدودٍ مرسومةٍ على الخريطة، أو نشيدٍ يُتلى في الطوابير الصباحية. إنّ الغربة لا تكمن في الجغرافيا، بل في الإحساس بعدم الانتماء، في الشعور بأن ما حولك ليس لك، وأنك تسير وسط أشياء تتكرر دون أن تمتلكها حقاً.
لهذا، يمكن أن يكون الإنسان غريباً داخل بيته، غريباً في وطنه، غريباً حتى عن ذاته؛ فالغربة هي المسافة بينك وبين إحساسك بالألفة، بينك وبين الشعور بأنك في موضعك الصحيح. كثيرون يعودون إلى أوطانهم فلا يجدونها، لأن الوطن الحقيقي لم يكن المكان، بل لحظةً توقفت في الذاكرة، ووجهاً لم يعد موجوداً، وصوتاً تلاشى في زحمة الحياة.
إنّنا نبحث عن الثبات في عالمٍ متغير، نريد يقيناً في كونٍ قائمٍ على الاحتمالات. لكننا كلما ظننا أننا أمسكنا بحقيقةٍ ما، أدركنا أنها مجرد ظلٍ لحقيقةٍ أخرى أكثر تعقيداً. لهذا، لا يوجد جوابٌ نهائيٌ لا عن الهوية، ولا عن الوطن، أو عن الزمن، وحتى عن الغربة، ولا الذاكرة. نحن فقط نكتب، ونروي، ونحاول أن نفهم، ثم نمضي، بينما الأسئلة تظل باقية، تلتف حولنا كأشباحٍ مألوفة، ترسم لنا حدود التيه الذي لا مهرب منه.
نحن الكائنات المثقلة بذاكرتها، نسير في طرقٍ نعرفها ولا تعرفنا، نحمل أوزار الأيام الماضية كأشباحٍ تتنفس داخلنا، كأن الزمن يرفض أن يمضي دون أن يترك ندوبه محفورةً في أرواحنا. الذاكرة تراكم صورٍ وأحداث، وجذرٌ ممتدٌ في أعماق الإنسان، تُغرس في روحه منذ لحظة الوعي الأولى، وتظل تنمو أشجاراً لا تحتاج إلى ضوء، وتعرف كيف تحيا في العتمة.
كلما حاول الإنسان الهروب، وجد أنه يحمل تاريخه معه، في حقائب السفر، وفي تجاعيد روحه، في نظراته التي تحمل أسئلةً بلا إجابات، في ذلك الانحناء الخفيف الذي يظهر على كتفيه دون سببٍ ظاهر. إنه الركام الذي لا يُمحى، ولا يغيب، ولا يُلقى خلفه هَوناً. نَظَنُّ أننا نمضي بعيداً عنه، وفي الحقيقة ندور حوله، نحاول أن نهرب منه فنجد أنفسنا نعود إليه، كأننا مسحورون بلعنة الزمن، كأن كل خطوةٍ للأمام هي محاولةٌ فاشلة للتخلص من ظلال الماضي.
الخوف الذي يلمع في عيون المارة، هو خوفٌ مما قد يراه هذا الآخر فينا، وخوفٌ من أن يكشف ما حاولنا دفنه، وأن يعكس لنا حقيقةً نحاول تجاهلها. لهذا، نحن نتجنب اللقاءات الطويلة، نتجنب الأسئلة العميقة، نبحث عن سطحيةٍ تبعدنا عن الغوص في أعماق أنفسنا. نريد أن نعيش خفافاً، لكننا نحمل أثقالنا في الصمت، نحمل أوطاننا التي لم تعد كما نعرفها، نحمل بيوتاً هُدمت، وأصدقاءً اختفوا، وأغنياتٍ لم تعد تُغنّى إلا في ذاكرةٍ تنزف.
كل مكان نزوره يترك فينا ندبةً جديدة، كل وجهٍ نلتقيه يُضيف سطراً إلى كتاب الحنين الذي لا ينتهي. فالأمكنة ليست مجرد بناياتٍ وشوارع، إنها خرائطٌ للوجع، مواضعٌ للمنافي الصغيرة التي نحاول أن نجعلها أماكن مؤقتة، لكنها تمتد فينا كأنها امتدادٌ للمنفى الأكبر الذي نحمله.
نحن لا نتحرر من الذاكرة، بل نتعلم كيف نتعايش معها. نحاول أن نحملها دون أن تسحقنا، أن نجعلها رفيقةً لا سجّاناً. ولكننا نكتشف، كلّ مرة، أننا لسنا نحن من نحملها، فهي التي تحملنا، تدفعنا حيث تريد، تسير بنا إلى حيث لا نعلم. نحن خطواتٌ تمضي، لكنها خطواتٌ في دوائر، وحين نظن أننا خرجنا، نكتشف أننا عدنا إلى حيث بدأنا، كأننا ظلالٌ تتبع زمنها، كأننا الشجر الذي يمشي دون أن يترك مكانه.
نحن حمل الذاكرة الذي لا يُرى، ولا يموت.