facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




التراث بين التفكيك والتجديد


أ.د سلطان المعاني
06-02-2025 12:07 PM

يتشكل التراث الفكري العربي في نطاق من التقاليد الفكرية المتداخلة، التي تتأرجح بين الانفتاح على التجديد والانغلاق على المسلمات الجامدة. إنه منظومة معقدة من النصوص والمفاهيم التي تشكلت عبر القرون، تحمل تأملات الفلاسفة، واجتهادات الفقهاء، ونزعات المتصوفة، وتمثل أحد أهم موارد الهوية الثقافية، لكنها في الوقت ذاته تتضمن تناقضات، بين ما هو تأسيسي وما هو طارئ، بين ما هو منهجي وما هو اجتراري، وبين ما هو متحرك وبين ما تكلس بفعل قوى التقليد والسلطة.

يكمن التحدي الأكبر في التعامل مع التراث العربي في استيعابه كحالة فكرية مرنة، لا ككتلة مغلقة لا تقبل المراجعة. فقد اعتاد العقل العربي أن يتعامل مع التراث كإرث مقدس، دون أن يُخضعه لمنهجية تحليلية تفكك بنيته وتكشف آلياته الداخلية. ولم يكن هذا الموقف مقتصرًا على العوام، بل امتد ليشمل النخبة الفكرية، التي وجدت في التراث سياجًا يوفر الاستقرار الفكري، لكنه في ذات الوقت قَيَّدَ القدرة على التساؤل والتجاوز. فالتراث الذي كان في زمن ما وسيلة للنهضة المعرفية، أصبح بفعل القراءات التكرارية حقلًا مغلقًا يعيد إنتاج ذاته، متجاهلًا أن النقد هو روح كل فكر حي، وأن ما لا يخضع للتحليل والتجديد محكوم بالجمود.

يبرز في قلب هذا الإشكال التوتر بين آليتي التشكيك والتثبت. والتشكيك، بوصفه آلية تفكيكية، يُعد الأداة التي تتيح للعقل العربي الخروج من أسر المسلمات، فهو لا يعني الهدم، بل إعادة النظر في القيم والأنظمة الفكرية التي يتم التعامل معها بوصفها يقينيات لا تقبل الجدل. إنه وسيلة لتفكيك الإطار الذهني التقليدي الذي يُنتج القراءات الأحادية للتراث، ويعيد إنتاج التفسيرات التي لا تتجاوز حدود التأويل الموروث. أما التثبت، فهو الآلية التي تمنع الانزلاق نحو العبثية أو الفوضى الفكرية، حيث يشكل قاعدة منهجية للتحقق من الأفكار، وفرز ما هو جوهري وقابل للاستمرار، مما هو طارئ وقابل للاستبدال أو التطوير.

إن إخضاع التراث لمنطق النقد الحضاري يتطلب وعيًا مزدوجًا: وعيًا بأهميته كمصدر للهوية الثقافية، ووعيًا بضرورة تجاوزه عندما يتحول إلى معيق للتطور. وما استعادة التراث إلا محاولة لإعادة إنتاجه في ضوء الواقع الراهن، والبحث عن إمكانيات جديدة لإعادة توظيفه. وهذا يقتضي تفكيك بنيته الداخلية لإبراز جدليته التاريخية، وكشف نقاط قوته وضعفه، ومعرفة كيف تداخل مع السلطة، وكيف أعاد تشكيل ذاته عبر العصور، وما إذا كانت معطياته لا تزال قادرة على الاستجابة للتحديات الجديدة.

لقد كانت إحدى أهم إشكالات التعامل مع التراث العربي هي غياب التفكيك النقدي الذي يحدد ما هو بنيوي وما هو عَرَضي فيه، وما هو تاريخي وما هو متعالٍ على التاريخ. فالموروث الفقهي، على سبيل المثال، لا يزال يُعامل كنصوص خالدة، دون مراعاة أن كثيرًا من أحكامه قد نشأت ضمن سياقات سياسية واجتماعية محددة، وأن تثبيتها خارج تلك السياقات يضعها في تعارض مع الحاجات الجديدة. كذلك، فإن الفلسفة العربية، التي كانت في عصرها الذهبي تعبيرًا عن انفتاح معرفي عابر للحدود، أصبحت تُقرأ ضمن قوالب مغلقة، مما جعلها تفقد مرونتها الأصلية. وحتى العلوم اللغوية، التي نشأت بوصفها أدوات تحليلية، تحولت إلى منظومة صلبة تُفرض بقواعدها الجامدة، بدلاً من أن تكون وسيلة لفهم تطور اللغة وتجددها.

ولا يمكن لأي مشروع نقدي للتراث أن يحقق هدفه إذا لم ينطلق من رؤية ترفض الثنائية الصدامية بين التراث والحداثة، فالتعامل مع التراث يجب أن يكون بوصفه مجالاً يمكن إعادة تأويله وإدماجه في الحاضر بطريقة متجددة. إن قراءة التراث بوعي نقدي لا تعني هدمه، بل تحريره من القراءات التي حوّلته إلى مجال مغلق. فهناك فرق بين الوعي بالتراث بوصفه عنصرًا حيًا منفتحًا على التأويل، وبين التعامل معه بوصفه نصًا جامدًا لا يقبل التفسير إلا ضمن شروط محددة مسبقًا.

لقد كان الجابري محقًا حين دعا إلى تجاوز "الإجماع التلقائي" على التراث، وهو الإجماع الذي يجعل من الموروث معيارًا لكل فكر، بدل أن يكون مجالًا للتساؤل وإعادة النظر. فالتراث لا يشكل حاكمًا على الحاضر، بل خاضعٌ لإعادة التفسير، كي لا يتحول إلى عبء يعوق تقدم الفكر. وهنا تبرز ضرورة إدخال مناهج نقدية جديدة، تتيح تحليل النصوص التراثية في ضوء مناهج التحليل الحديثة، سواء من خلال البنية، أو التأويل التاريخي، أو النقد التفكيكي، أو غيرها من المناهج التي تجعل من النص التراثي مجالًا للبحث، وليس مجرد نصوص تُستدعى دون مراجعة.

إن السؤال المركزي الذي يجب طرحه هو كيف يمكن لنا قراءة التراث بطريقة تتيح تجاوزه من دون القطيعة معه. إن التراث لا يشكل معطى ثابتًا، إنه مجال متغير، يخضع للتحليل وإعادة البناء وفقًا للسياقات الراهنة. فالتاريخ ليس خطًا مستقيمًا، إنه حالة من الصراع بين التقاليد والتجديدات، بين المسلمات والأسئلة، بين الاستمرار والانقطاع. لذا، فإن استعادة التراث عملية إحيائية، ونقد متجدد، يسمح بتأويله بطريقة تحرره من الاستعمالات الأيديولوجية التي تفرض عليه أن يكون مجرد ماضٍ مُعاد إنتاجه، دون أن يكون مجالًا للإبداع.

بهذا المعنى، يكون نقد التراث استجابة معرفية، وشرطاً ضرورياً لأي مشروع حضاري يسعى إلى تجاوز أزماته، حيث يصبح التحرر من القراءات الجامدة ضرورة لفهم التراث كحقل مفتوح، متجاوزاً الأطر المغلقة. إنه تجاوز للسلطة الأحادية التي تحوّل التراث إلى نموذج لا يقبل النقاش، وبدلاً من ذلك، يصبح مساحةً للتفكير النقدي الذي لا يكتفي بإعادة إنتاج الأسئلة القديمة، وإنما يبتكر أسئلة جديدة، قادرة على إعادة تشكيل العلاقة بين التراث والحداثة، بطريقة تحافظ على روح الفكر، لكنها لا تجعل منه قيدًا على المستقبل.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :