ما بين الشهادات العليا وسنابل القمح .. أحلام فردية .. أم التزام حكومي؟! ..
محمود الدباس - ابو الليث
04-02-2025 12:03 AM
لطالما كان الإنسان يسعى لتحقيق الأفضل.. سواء في علمه أو رزقه.. وكثيراً ما يتخذ قراراتٍ.. يراها صائبة في إطار محدود.. ثم ينتظر أن يتبناها الآخرون.. حتى لو لم تكن ذات جدوى لهم.. الموظف الذي قرر أن يُكمل دراسته العليا.. دون إذن مؤسسته.. يتوقع منها أن تكرّمه.. وتزيد راتبه فقط.. لأنه اجتهد.. دون أن يسأل نفسه.. هل تحتاج هذه المؤسسة.. لمزيد من الشهادات؟!.. هل هناك حاجة حقيقية.. لهذه الدرجة العلمية في وظيفته؟!.. أم أنه ببساطة يريد أن يأخذ خطوة للأمام.. على حساب جهة لم تطلب منه ذلك أصلاً؟!.. وهل يعلم بأنه قد يصطدم بمفهوم "تحمل مؤهلات.. أعلى من المؤهل المطلوب.. Over qualified"؟!..
وهذا ما جعلني أتذكر الكثير من الأحاديث حول زراعة القمح.. فهناك من يقرر أن يزرعه بأي تكلفة.. ثم يطالب الحكومة بشرائه بسعر يفوق السوق العالمي.. وكأنه يقول.. "لقد قررتُ أن أزرع.. وعليكم أن تدفعوا!".. وهنا.. تتكرر نفس الإشكالية.. ولكن بصيغة أخرى.. هل الدولة مطالبة بأن تدفع لأي شخص.. قرر خوض مغامرة فردية.. دون دراسة واقعية؟!..
ليس هناك من يشكك.. في أن القمح سلعة استراتيجية.. وأن امتلاك القدرة على إنتاجه محلياً أمرٌ بالغ الأهمية.. لكن.. هل يمكن تحقيق الاكتفاء الذاتي؟!.. لننظر إلى الأرقام بعيداً عن العواطف.. في الماضي كان عدد السكان حوالي مليون نسمة.. وحتى حين وصل الى ثلاثة ملايين نسمة.. وكانت الأرض خصبة.. والمطر وفيراً.. كان خبزنا من قمحنا..
أما اليوم.. فعدد السكان.. تجاوز -من غير الزوار والمقيمين والمهجرين- العشرة ملايين.. والمناخ تغير.. والأراضي الزراعية تآكلت بفعل الامتداد العمراني.. والمياه الجوفية تكاد تكون كنزاً مفقوداً.. ومع ذلك.. يريد البعض.. أن نعود إلى الماضي بقوة الإرادة وحدها.. متجاهلين أن الطبيعة نفسها.. قد بدّلت معادلاتها..
فزراعة القمح.. تحتاج إلى موسم مطري بمعدل 250 ملم وبتوزيع شبه منتظم.. وهذا لم يعد متاحاً إلا في مناطق معينة في شمال المملكة.. وجزء يسير في وسطها.. أما الريّ من المياه الجوفية.. فهو حلٌ مكلف.. لأن إنتاج مليون طن من القمح سنوياً.. يحتاج إلى مليار متر مكعب من المياه.. أي أن كل قطرة ماء.. ستذهب لهذا المحصول.. ولن يتبقى شيءٌ للصناعة.. أو الشرب.. أو باقي الزراعة والقطاعات.. فهل نحن مستعدون لهذا الخيار؟!..
أما من ناحية الكلفة.. فالأمر أكثر وضوحاً.. فالقمح المستورد.. يكلف الخزينة 400 دولار للطن تقريباً.. بينما تشتريه الحكومة من المزارع الأردني بـ 700 دولار تقريباً.. أي ما يقارب ضعف السعر العالمي.. ويصل الى حوالي 1200 دولار للطن.. في المناطق التي تحتاج لاستصلاح وتحليلة مياه للريّ.. ومع ذلك.. تدفع الدولة هذا الفارق دعماً للمزارعين.. ولأن الكميات قليلة لا تتعدى 30 الف طن سنوياً.. اي ما نسبته اقل من 3% من احتياجنا.. وليس لأنها لا تستطيع الاستيراد بسعر أقل.. فهل نحن مستعدون لتحمّل هذه الفروقات على نطاق أوسع؟!.. وهل سيقبل المواطن أن يرتفع سعر الخبز.. ليدفع بنفسه جزءاً من هذا الفارق.. هذا إذا كان بالإمكان أصلاً زراعة الكمية المطلوبة وسط هذا الشح المائي الحاد؟!.. أم أن الأمر مجرد حماسة في الطرح.. دون إدراك للواقع الذي نعيشه؟!..
الكثيرون يتحدثون بحماس عن ضرورة الاكتفاء الذاتي.. لكن هل هم مستعدون لتحمّل التبعات؟!.. هل سيقبلون بحياة تقشفية.. مقابل زراعة القمح محلياً.. مهما كانت الكلفة؟!.. وهل الدولة مطالبة أن تدفع أضعاف ما تدفعه اليوم.. فقط لإرضاء رغبة الحالمين بالعودة إلى زمن الاكتفاء الذاتي؟!.. إن اتخاذ القرار من مقعد المتفرج سهلٌ للغاية.. لكن حين يتحول الحماس إلى مسؤولية.. ويتطلب اتخاذ قراراتٍ مصيرية.. تمس حياة الملايين.. حينها فقط.. يدرك الإنسان.. أن الشعارات وحدها لا تصنع حلولاً.. وأن الحلول تحتاج إلى توازن.. بين الاحتياجات والإمكانات.. بين الحلم والواقع.. وبين ما نريد.. وما نستطيع تحمله..
وعلينا أن نقر ونعترف.. أنه لأمر مشروع.. أن نحلم ونطالب بالاكتفاء الذاتي.. ولكن قبل أن نرفع الشعارات.. علينا أن نجيب على سؤالٍ بسيط.. هل نحن مستعدون لدفع الثمن.. هذا إذا كان أصلاً قابلاً للتطبيق؟!..