خارطة طريق الذكاء الاصطناعي للحكومة
صالح سليم الحموري
02-02-2025 01:17 PM
في عالم يزداد اعتمادًا على التكنولوجيا بوتيرة متسارعة، أصبح "الذكاء الاصطناعي" القوة الدافعة للتحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات والحكومات ولم يعد الحديث عن هذه التقنية مجرد ترفٍ فكري، بل أصبح ضرورة ملحة أمام صناع القرار الذين يسعون إلى تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي. تقرير "خارطة طريق الذكاء الاصطناعي للحكومات"، الذي أطلقته القمة العالمية للحكومات لعام 2025، يؤكد أن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد أداة لتعزيز الإنتاجية وتحسين الأداء، بل هو عامل حاسم في بناء مستقبل أكثر استدامة، وتحقيق قفزات نوعية في كفاءة الحكومات، وتطوير الخدمات العامة.
في ظل هذا المشهد المتغير، تدرك الدول أن تبني الذكاء الاصطناعي لم يعد خيارًا، بل ضرورة استراتيجية. ومع ذلك، فإن تسخير هذه التقنية لا يخلو من التحديات، حيث تواجه الحكومات معضلات معقدة تتعلق بأثر الذكاء الاصطناعي على سوق العمل، والخصوصية، وأمن البيانات، والتأثير البيئي، إضافة إلى المخاوف المرتبطة بسيادة الدول الرقمية.
فبينما يحمل الذكاء الاصطناعي وعودًا كبيرة لتحسين جودة الحياة، لا يمكن تجاهل المخاطر التي قد تنشأ عن انتشاره الواسع دون إطار تنظيمي واضح وآليات حوكمة رشيدة.
فيما يتعلق بسوق العمل، فإن التحولات الناجمة عن الذكاء الاصطناعي تُعيد تعريف الأدوار التقليدية للوظائف، حيث أصبحت "الأتمتة والروبوتات والذكاء الاصطناعي التوليدي" تسيطر على العديد من المهام التي كانت في الماضي تُنفذ يدويًا. هذا الواقع الجديد يفرض على الحكومات ضرورة الاستثمار في "تنمية رأس المال البشري ووظائف المستقبل"، وتطوير "برامج تدريبية وتعليم تنفيذي" تستهدف تأهيل القوى العاملة للوظائف الجديدة التي ستنشأ بفعل الثورة الصناعية الرابعة. ومع ذلك، فإن التحدي لا يقتصر على توفير المهارات فحسب، بل يمتد ليشمل إعادة هيكلة "الأنظمة التعليمية والتدريبية" بحيث تتواءم مع احتياجات المستقبل، مما يتطلب رؤية متكاملة تعزز "الابتكار" وتدعم "الاقتصاد المعرفي".
أما فيما يتعلق بالخصوصية وحماية البيانات، فإن الاستخدام الواسع للذكاء الاصطناعي يزيد من الحاجة إلى وضع "أطر قانونية" تضمن الحفاظ على حقوق الأفراد، وتمنع إساءة استخدام البيانات من قبل الشركات أو الحكومات. فالمعلومات الشخصية أصبحت السلعة الأثمن في العصر الرقمي "نفط المستقبل"، مما يجعل من الضروري تعزيز التدابير التي تحمي الأفراد من التعدي على بياناتهم، وضمان استخدام الذكاء الاصطناعي في سياقات مسؤولة توازن بين التطور التكنولوجي والاعتبارات الأخلاقية.
الجانب البيئي لا يقل أهمية عن بقية التحديات، فمع التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي، تزداد الحاجة إلى طاقة هائلة لتشغيل مراكز البيانات ومعالجة كميات ضخمة من المعلومات. هذا الاستهلاك المتزايد للطاقة قد يفاقم من البصمة الكربونية، مما يحتم على الدول البحث عن حلول أكثر استدامة، "أشارت تقديرات مؤشر ستانفورد للذكاء الاصطناعي لعام 2023 إلى أن الانبعاثات الكربونية الناتجة عن تدريب نموذج شات جي بي تي 3 (ChatGPT-3) تعادل28 ضعفًا لمتوسط انبعاثات الكربون الصادرة عن الفرد الأمريكي العادي خلال عام كامل، بل وتتجاوز90 ضعفًا مقارنة بانبعاثات الفرد العادي عالميًا خلال نفس الفترة." تشمل تحسين كفاءة أنظمة الذكاء الاصطناعي، والاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة لدعم البنية التحتية الرقمية.
في هذا السياق، تبرز مسألة "السيادة الرقمية" باعتبارها أحد التحديات الرئيسية التي تواجه الحكومات. فمع سيطرة شركات التكنولوجيا الكبرى على معظم تقنيات الذكاء الاصطناعي، تجد الدول نفسها أمام معضلة تتعلق بمدى قدرتها على التحكم في بياناتها ومصادر معلوماتها. هذه المسألة تتطلب مقاربة استراتيجية تضمن استقلالية الدول الرقمية، من خلال تطوير نماذج ذكاء اصطناعي وطنية، وتعزيز الابتكار المحلي، وتقليل الاعتماد على الحلول المستوردة التي قد تؤثر على أمنها السيبراني.
وفي ظل هذا المشهد المعقد، يسعى الأردن إلى أن يكون في مقدمة الدول التي تتبنى الذكاء الاصطناعي كمحرك أساسي للتنمية، حيث تتجلى رؤية المملكة في بناء منظومة متكاملة ترتكز على الاستثمار في الابتكار، وتعزيز البحث العلمي، وخلق بيئة حاضنة للمواهب الأردنية في هذا المجال. الأردن يمتلك فرصة فريدة ليكون مركزًا إقليميًا للذكاء الاصطناعي، مستفيدًا من موارده البشرية الشابة، وقطاعه التكنولوجي المزدهر، والبنية التحتية الرقمية التي تتطور باستمرار.
تحقيق هذه الرؤية يتطلب التزامًا بتطوير "التعليم والتدريب"، بحيث يتم إدراج الذكاء الاصطناعي في المناهج الدراسية منذ مراحل مبكرة، بما يضمن تخريج أجيال قادرة على التعامل مع التكنولوجيا المتقدمة. كما أن تعزيز "الشراكات بين الحكومة والقطاع الخاص" سيكون عاملًا حاسمًا في دعم الأبحاث والتطوير، وخلق بيئة تجذب الاستثمارات في مجال الذكاء الاصطناعي.
ومن جهة أخرى، فإن تحديث التشريعات لتواكب تطورات الذكاء الاصطناعي سيكون ضروريًا لضمان الاستخدام الآمن والمسؤول لهذه التقنيات، كما إن وضع أطر قانونية تحدد حقوق الأفراد، وتنظم استخدام البيانات، وتعزز الشفافية والمساءلة، سيمنح الأردن ميزة تنافسية في هذا المجال، وسيمكنه من تطوير بيئة موثوقة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي في القطاعات الحيوية مثل الصحة، والتعليم، والأمن، والخدمات الحكومية.
على المستوى الاقتصادي، فإن استثمار الذكاء الاصطناعي في تحسين الإنتاجية، وتحليل البيانات لاتخاذ قرارات أكثر دقة، سيدفع عجلة النمو المستدام، وسيسهم في تطوير القطاعات التقليدية مثل الصناعة والزراعة، وتحويلها إلى قطاعات ذكية تعتمد على التحليل التنبئي والأتمتة المتقدمة. كما أن جذب الاستثمارات العالمية في الذكاء الاصطناعي، وتشجيع الشركات الناشئة على تبني هذه التقنية، سيجعل الأردن وجهة رئيسية للابتكار في المنطقة.
وفي سبيل تحقيق هذه الطموحات، فإن خارطة طريق الأردن للذكاء الاصطناعي يجب أن تشمل خطوات واضحة تضمن التنفيذ الفعّال لهذه الرؤية. ومع تشكيل المجلس الوطني لتكنولوجيا المستقبل حديثًا، أصبح لدى الأردن منصة رسمية تُعنى بوضع السياسات، وصياغة الاستراتيجيات الوطنية، وتوجيه الجهود نحو تبني أحدث التقنيات، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، هذا المجلس يُعد خطوة متقدمة نحو رسم ملامح المستقبل الرقمي للمملكة، وتعزيز التعاون بين مختلف القطاعات لضمان الاستثمار الأمثل في الذكاء الاصطناعي، مما ينعكس إيجابًا على الاقتصاد الوطني وتحسين كفاءة الخدمات الحكومية.
ولأن بناء المستقبل لا يكون بالانتظار، بل بالفعل، حملت كلمات سمو الأمير الحسين بن عبدالله الثاني خلال الاجتماع الأول للمجلس رسالة واضحة لكل قادة القطاع العام: تبنوا الجرأة، كونوا استباقيين، ولا تنتظروا المستقبل، بل اصنعوه بأنفسكم. هذه الدعوة تمثل جوهر المرحلة المقبلة، حيث لم يعد التكيف مع التكنولوجيا كافيًا، بل أصبح المبادرة والابتكار هما الأساس لقيادة التحول الرقمي وتحقيق الريادة الإقليمية في الذكاء الاصطناعي.
وفي هذا السياق، فإن تطوير البنية التحتية الرقمية، من خلال إنشاء مراكز بيانات متقدمة، وتعزيز تقنيات الحوسبة السحابية، وتطوير شبكات اتصال تدعم التحول الرقمي السريع، سيكون أحد الركائز الأساسية التي تمكّن من إطلاق تطبيقات الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات. هذه الجهود لا تهدف فقط إلى تحسين كفاءة الخدمات، بل إلى ترسيخ مكانة الأردن كمركز إقليمي للابتكار التكنولوجي، وجذب الاستثمارات العالمية في قطاع الذكاء الاصطناعي، ليكون لاعبًا رئيسيًا في صياغة مستقبل الاقتصاد الرقمي.
* صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية