إنّ المتأمل في تجربة العرب التاريخية مع الغرب (الولايات المتحدة وأوروبا) يلاحظ بوضوح أنّ هذه التجربة كانت مريرة وأنها مُشوبة بالخُذلان الغربي للعرب، ففي حين تقرّب الشريف الحسين بن علي الذي قاد ثورة العرب ضد العثمانيين (الثورة العربية الكبرى) في عام (1916) تآمرت بريطانيا عليه ومزقت حلمه بتأسيس دولة عربية واحدة، بل على النقيض من ذلك تفاهمت مع شريكتها الاستعمارية فرنسا على تقسيم الولايات العربية التي كانت تحت الحكم العثماني إلى دول تحت انتداب الدولتين الاستعماريتين فيما عُرف لاحقاً باتفاقية سايكس بيكو (1916).
غير أنّ الخُذلان الغربي للعرب بلغ ذروته عندما تمت إقامة إسرائيل في فلسطين متسببةً بتشريد الشعب الفلسطيني (تمّ تهجير أكثر من 750.000 شخص، وتدمير أكثر من 520 قرية)، وبخلق كيان عدواني يستنزف الموارد العربية، ويحول دون قيام أية كيانات عربية قوية وواعدة.
وقد تجلى الخُذلان الغربي للعرب ووقوفه ضد آمالهم وأحلامهم في صورة واضحة وخبيثة إلى جانب العدوان الإسرائيلي على الدول العربية (مصر، وسوريا، والأردن) في عام 1967، حيث تمخضت هذه الحرب عن احتلال أجزاء كبيرة من الأراضي العربية ما زال بعضها مُحتلاً حتى الآن (الجولان السوري، والضفة الغربية).
واستمراراً لنفس السياسة الغربية المعادية للعرب وقف الغرب (وبالذات الولايات المتحدة) إلى جانب إسرائيل في حرب أكتوبر 1973 حيث حال دون انتصار الدول العربية وتحريرها الكامل لأراضيها، بل قام من خلال مُفَاوضِه الشهير"هنري كيسنجر" بعقد اتفاقيات كامب ديفيد (1978)، والتي أخرجت مصر فعلياً من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي، ومكّنت إسرائيل من ممارسة اعتداءَات كبيرة كالاعتداء على لبنان ودخول عاصمته (1982)، وكالاعتداء على العراق لاحقاً واحتلاله في عام (2003) بكل ما ترتب على ذلك من قتل أكثر من مليون عراقي، وإضعاف العراق كقوة إقليمية وازنة، بل وتركِه مجالاً للنفوذ الإيراني.
والواقع أنّ الخُذلان الغربي للعرب وتآمره ضدهم لم يتجلَ كما تجلى في معركة السابع من اكتوبر (2023)، فقد دعم الغرب إسرائيل وبخاصة الولايات المتحدة في ممارسة إبادة جماعية حقيقية موصوفة شاهدها العالم، وأوصلت إسرائيل إلى محكمة العدل الدولية (أعلى هيئة عالمية تابعة للأمم المتحدة) التي تُحقّق في ممارستها لأم الجرائم وهي "الإبادة الجماعية"، كما أوصلتها إلى محكمة الجنايات الدولية التي اتهمت رئيس وزراء إسرائيل "نتنياهو" ووزير دفاعه "جالانت" بارتكاب جرائم حرب.
ولعلّ المفارقة في تجربة العرب التاريخية مع الغرب أنّ العرب كانوا يحاولون دائماً إقامة علاقات جيدة معه، بل والتحالف مع دُوَلِه، فكثير من الدول العربية وبالذات دول الخليج العربي -حيث النفط عصب الحضارة الصناعية المعاصرة والرساميل الهائلة- تقيم علاقات استراتيجيه مع الغرب، كما أن هناك مصالح كبيرة للغرب في الوطن العربي الذي يحتل مكاناً حيوياً على خارطة العالم حيث قناة السويس، ومضيق باب المندب وغيرهما من المنافذ الهامة لكل دول العالم وشعوبه.
وللمفارقة أيضاً أنه في حين مارس الغرب الخُذلان الواضح والصريح للعرب نجد أن بعض الدول العربية تتحول من التحالف التاريخي مع الشرق (الاتحاد السوفيتي سابقاً وروسيا حالياً، والصين) إلى التحالف مع الغرب إذْ هذا ما فعلته مصر بعد عقد معاهدة " كامب ديفيد" في عام (1978)، وهذا ما فعله العراق في عام (2011) حيث عقد معاهدة استراتيجية مع الولايات المتحدة، وهذا ما تحاول أن تفعله الإدارة الجديدة في سوريا في ضوء الضغوط الغربية عليها والمتمثلة في العقوبات الاقتصادية المؤثرة، والتهديد بإبقاء هيئتها الحاكمة على قوائم "المنظمات الإرهابية".
ولعلّ من الواضح أن الغرب في تعامله مع العرب الآن يستغل الأوضاع الدولية الحالية حيث لم تعد هناك قوة موازية له (روسيا دولة عظمى عسكرياً ولكنها ليست في مستوى الولايات المتحدة اقتصادياً، والصين تمثل ثاني اقتصاد في العالم ولكنها ما زالت تتلمس دورها على الصعيد السياسي)، الأمر الذي يفرض على صناع القرار في الوطن العربي تبني مقاربة جديدة في تعاملهم مع الغرب بحيث تقوم هذه المقاربة على فهم دقيق للتجربة التاريخية، وعلى تقييم واعٍ للإمكانات العربية، وعلى تخطيط حصيف للمستقبل العربي في ضوء المتغيرات المهمة: المحلية، والإقليمية، والدولية. إنّ هذه بالقطع مسؤولية تاريخية كبيرة يجدر بصنّاع القرار العرب أن يتحملوها بغير تردد فالأمة في النهاية هي الباقية، وكل ما عداها زائل.