جمع أجدادنا الأضداد، وحكم الجد الكبير المؤسس لإمبراطورية الأدوميين الأردنيين من ثمود محترِماً جميع المعتقدات الدينية لرعاياه: من ملحد إلى الموحّد إلى ما بين بين، لكنه لم يطق اليهود، وسد أمامهم لأرضنا الطرق. وباراه في ذلك ملك أردني ناصع آخر هو الملك ميشع المؤابي وحاربهم حتى طاردهم إلى شمال فلسطين، وهو ما دفعني إلى الكتابة الآن.
هزم ميشع المؤابي الإسرائيليين الذين سيطروا على أجزاء من البلقاء قادمين من خلف مملكته، وأجبرهم على عبور النهر الخالد إلى أرض كنعان. وكي يتأكد أنه طهّر الأردن من رجس احتلالهم ومن أعوانهم، ابتدع الملك ميشع المؤابي طبق المنسف الذي أصبح وغدا وأضحى وأعشى، ثم أصبح وغدا وأضحى وأعشى، الطبق القومي الأردني المعروف اليوم. ابتدعه الملك ميشع (أي أبدع في اختراعه) كيما يعرف من هو يهودي أو هو يهوديّ الهوى في مملكته بغية التخلص منه. إذ كان يعرف أن اليهود لا يأكلون اللحم المطبوخ في لبن أمِّه. ومنذ ذلك الحين استعصت البلاد شرق النهر على محاولات اليهود إخضاعها وحكمها المباشر. وجاء بعد المؤابيين الأنباط في الجنوب والعمونيون في عمان وشمالها ومملكة بيريا في السلط الشموخ وكلها كانت في صدام دائم مع نفوذ اليهود غرب النهر.
قلت في مقالة أخرى عن السلط عاصمة بيريا الأردنية مرددا قولاً لأبي تمام:
من عهد إسكندرٍ أو قبل ذلك قد شابت نواصي الليالي وهي لم تشبِ
وضرورة هذه المقدمة هي ما نقلته الوسائل الإخبارية على اختلاف مشاربها تصريحاً أطلقه السفير الأميركي الذي اختاره الرئيس المنتخب (يومها) للولايات المتحدة دونالد ترمب السيد مايك هاكابي ليمثله في إسرائيل. إذ نقلت وسائل الإنباء عنه (أي السفير المعين هاكابي) أن ليس لديه من إسم يطلقه على الضفة الغربية المحتلة غير تعبير "يهودا والسامرة". ومضى الخبر وفحواه بقليل من التعليق المباح والمعلقين.
أما كاتب هذا المقال فقد كان شرّفه الملك الحسين الراحل وحكومتُه رئيسها المحترم طاهر المصري بتمثيل الأردن في عضوية الوفد الأردني للمفاوضات الثنائية لمؤتمر السلام في الشرق الأوسط، ثم رئاسة وفده إلى مجموعة عمل المياه في المؤتمر متعدد الأطراف الخاص به، وهذا المؤتمر بعد انعقاده في موسكو في 26 يناير عام 1992 بدأ جولته الأولى لمجموعة عمل المياه في فيينا بالنمسا، والثانية في جينيف بسويسرا، أما الثالثة فكانت في واشنطن في أواخر آب 1992 متزامنة مع اجتماع وفد المفاوضات الثنائية بين إسرائيل والأردن في نفس المبنى (الدور الأول من وزارة الخارجية الأميركية) في حيّزين مختلفين من ذلك الدور الأول.
بعد افنتاح مجموعة عمل المياه للمؤتمر متعدد الأطراف من قبل رئيسه الأميركي، طلب الكلمة رئيس الوفد الفلسطيني ( الأستاذ رياض الخضري عضو هيئة التدريس في جامعة الأزهر بغزة) وشكا من عناد السلطات الإسرائيلية لأنها لم تستجب لطلبات الفلسطينيين تزويدهم ببيانات المياه في الأراضي الفلسطينية المحتله فهي بيانات مطلوبة كي يبني الفلسطينيون عليها موقفهم في تلك الجلسة. أجاب رئيس الوفد الإسرائيلي ما ترجمته " كل ما على سكان يهودا والسامرة عمله هو التقدم بطلب رسمي إلى الإدارة المحلية في مناطقهم وهي التي ستسجيب لطلباتهم."
هنا مال رئيس الوفد الأردني (كاتب هذا المقال) إلى جاره رئيس الوفد الفلسطيني (رياض الخضري) وهمس في أذنه: "لا تدع قول الإسرائيلي يمضي دون اعتراض على التسمية، فأنتم فلسطينيون ولستم كما يصفكم بسكان يهودا والسامرة." إلا أن رئيس الوفد الفلسطيني لم يتفوه باعتراضً، وانتظرت رداً واعياً من نائبه الدكتور مروان حداد (نابلس) ولم يشف ردّه الغليل فطلبت الكلمة وأعطِيتها، وقلت:
" أيها السادة المجتمعون ( وكانوا مندوبين عن 38 دولة): أشكركم باسم الوفد الأردني على اهتمامكم بالسلام في منطقتنا والمعبر عنه بحضوركم. وأرجوا أن تحتملوني بصبركم كي أذكركم جميعاً أن رئيس الوفد الإسرائيلي قد استخدم تعابير أسطورية في أوقات حداثية. فقد سمعناه يصف ما نعرفه جميعاً بالضفة الغربية بيهودا والسامرة. وإني أعوّل على تفهمكم وصبركم لقولي أنه إذا سمعته يكرر ذلك التعبير في حضوري سأضطر إلى وصف كافة الأراضي الواقعة بين شاطئ البحر المتوسط ونهر الأردن ب "فلسطين"، هكذا كان اسمها في ضميرنا وهكذا سيبقى!"
أجاب رئيس الوفد الإسرائيلي على تعليقي بقوله: لم نقصد أي هدف سياسي ولكننا استعملنا التعبير الذي يستعمله شعبنا، وكان ردي العلني على جوابه: "وأنا لم أخترع إسماً جديداً فهذا الاسم أي فلسطين يستعمله شعبنا وشعوب الدول العربية والإسلامية والعالم كله!"
وأثار ذلك جدالاً استمر قرابة عشرين دقيقة لاحظت خلالها عضواً من الوفد الإسرائيلي يترك القاعة وعاد بعد فترة.
كان ذلك يوماً حافلاً بالمجادلات نقلته صحافة الغرب وأميركا بالذات، ولما بلغت تلك المواجهة مسامع الملك الهاشمي المغوار الحسين بن طلال علق على ما حدث بالقول : "هيك مزبطة بدها هيك ختم!".
وفي المساء استدعاني رئسي وفد المفاوضات الثنائية (وليس المتعددة)، المرحوم الدكتور عبدالسلام المجالي إلى غرفته في فندق الويلارد. وقال لي: "ما الذي حدث في اجتماع المتعددة اليوم؟" استغربت سؤاله وذكّرته أنني أتبع وزير الخارجية في شؤون المتعددة وليس رئيس المفاوضات الثنائية. فقال إن ما حدث في المتعددة أثر على الثنائية. فقلت : وكيف كان ذلك؟
قال ذلك الأردني المجالي الحقيقي البهي رحمه الله: "كنت في الاجتماع التنسيقي اليوم قبيل عقد اجتماع الثنائية، وكان رئيس الوفد الإسرائيلي يقول لي: يا ريت عندي واحد زي حدادين اللي عندك لعمق معرفته بالموضوع وما ينوي فعله. وهنا دق على الباب شخص إسرائيلي وخرج له روبنشتاين وغاب لفترة قصيرة وعاد للاجتماع بي لكن بتعابير مختلفة عنك، إذ قال نقلاً عني في المتعددة إنني وإياك وكذلك الوفدان الأردني والإسرائيلي نقضي أوقاتنا بشرب لقهوة! فما الذي حصل؟". تذكرت عضو الوفد الإسرائيلي الذي غادر الاجتماع وأخبرت المجالي بما حصل وبدوره أثنى على ما كان لي من أداء في المتعددة.
وما أريد تأكيده في مقالتي اليوم هو ما أومن به دائماً وهو أن أرضنا كانت ولا تزال كريمة معطاءة لنا وكريمة مع من يؤمها من قادمين ومهاجرين منذ أيام الحوريين والأدوميين والمؤابيين والعمونيين ومملكة بيريا والأنباط ومن حكمها من سليح من قضاعة من تحالف تنوخ بعد الأنباط ثم الغساسنة والعرب المسلمون وسواهم. وما كانت أرضنا إلا مرجلةً لتفاعل الحضارات وإنتاج الشعوب الحضاري من االأدوميين والفراعنة واليونان والرومان والبيزنطيين ثم نحن العرب أبناء هاجر والإسماعيلية ( دولة الفاطميين وخلافتهم) إلى المماليك الذين هزموا المغول في عين جالوت عام 1261، إلى الأتراك العثمانيين في الثورة العربية الكبرى عام 1917، إلى الغرب الحاقد.
وما مصير الغزاة الجدد من الغرب بمختلف عن مصير الغزاة القدماء. ومرحى لمليكنا المفدى حامل راية الثورة العربية الكبرى وأهدافها. وليكن هدفنا ثابتاً كما كان أيام تحالفنا مع أجداده منذ العام 1921 قبائل عربية وعشائرها جزيلة الإحترام. أقولها ولي في تاريخيالشخصي جملة من العلم والتلعلم اكتسبتها من أرض أجدادي في الأردن في مراحل التعليم حتي الثانوية ومن مصر حتى التخرج من جامعة الإسكندرية مهندساً، ومن الولايات المتحدة حيث احتصلت على الماستر والدكتوراة مقيماً هناك، وخدمت بلادي بحرقة الأبن الحريص منذ العام 1971 حين استدعاني رئيس الوزراء الراحل وصفي التل وقال لي ونحن واقفين في مكتبه:
"فيه مليون واحد زيك في أميركا، أما نحن في الأردن فليس لنا دكتور واحد في الهندسة"
وفي الواقع كان هناك ثلاثة أردنيين بدرجة دكتور في الهندسة، أحدهم أبدع في تأسيسه لشركة دار الهندسة، وثانيهم كان يدرّس في جامعة صنعاء، وكنت ثالثهما. عدت دون وجود التزام قانوني بل كان عندي التزام ورثته عن أجدادي وهو التزامٌ أخلاقي وأمضيت في خدمة بلادي منذئذ قرابة نصف قرن ونيف أحمد الله على تمكيني لخدمتها، وهي خدمة واجبة علينا لا نبغي من ورائها حمداً ولا شكورا. وكان ديدننا فيها قول المتوكل الليثي:
إنّا وإن أحسابَنا كرُمت لسنا على الأحساب نتّكلُ
نبني كما كانت أوائلنا تبني ونفعلُ فوق ما فعلوا
وفعلوا واقتدينا بهم ويقتدي بنا نسلنا، أقولها بفمي الملآن وتشاركني زوجتي الأعجمية أن "ليس كمثل بلادي بلاد وليس كمثل وهادنا وهاد".
ثم لنا بعد أن طرقت مسامعنا رغبات الرئيس الأميركي الجديد بتهجير الفلسطينيين عنوة إلى بلادنا أقوالٌ وأمثال. وهي موضوع لقائنا القادم. نستودعكم الله وهو ولي التوفيق.