تراث الإمام البخاري .. كنز لا يقدر بثمن!
29-01-2025 02:35 PM
عمون - إن إبداع الإمام البخاري يذهلنا بمدى اتساعه وشموله للعلوم الدينية والاجتماعية في عصره. فقد بدأ محمد بن إسماعيل البخاري في تأليف الكتب في سن مبكرة للغاية.
وبحسب المصادر فقد أنتج العالم أكثر من عشرين مؤلفاً خلال مسيرته الإبداعية. ويروي الخطيب البغدادي عن البخاري نفسه: "لما بلغت الثامنة عشرة من عمري بدأت في تصنيف مسائل وأقوال الصحابة والتابعين. وكان ذلك في زمن عبيد الله بن موسى. وكنت في ذلك الوقت أصنف كتاب التاريخ في الليالي المقمرة بالقرب من قبور رسول الله صلى الله عليه وسلم".
وقد أشار المؤرخون الذين درسوا حياة الإمام البخاري ومؤلفاته على وجه الخصوص إلى ما يلي:
1. "الجامع الصحيح" وسنتحدث عن هذه التحفة الفنية للإمام البخاري بمزيد من التفصيل فيما بعد.
2. "الأدب المفرد" هذا الكتاب الذي يحتوي على أصح أحاديث الإمام البخاري في الأخلاق، يعد مجموعة فريدة من نوعها ذات قيمة تربوية لا مثيل لها. يحتوي الكتاب على 1322 حديثاً وخبراً في 644 باباً. وقد نُشر عدة مرات في الهند وتركيا ومصر. كما نجت عدة نسخ مكتوبة بخط اليد من العمل.
3. "التاريخ الكبير": كما ذكرنا آنفاً، فقد ألف الإمام البخاري هذا الكتاب في الليالي المقمرة عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة وهو في الثامنة عشرة من عمره تقريباً. وهذا الكتاب ليس عن التاريخ العام كما نفهمه اليوم، بل عن تاريخ رواة الحديث، أي سيرتهم وصفاتهم في رواية الحديث.
قال الإمام البخاري نفسه عن هذا الكتاب: "إني أروي عن كل اسم في التاريخ قصة، ولكني لم أحب أن يكون الكتاب طويلاً".
يقول أبو أحمد الحاكم في كتابه الكوني: "ليس في تاريخ محمد بن إسماعيل كتاب، ولم يكتب بعده من كتب التاريخ والأسماء والكُنى إلا بعد مساعدته، وقد أشار إليه بعضهم، كأبي زرعة وأبي حاتم ومسلم، وروى عنه بعضهم، رحم الله هذا الرجل، فهو خير الأخيار".
"قال محمد بن أبي حاتم الوراق البخاري: سمعت البخاري يقول: جاء إسحاق بن راهويه إلى عبد الله بن طاهر بكتاب التاريخ الذي صنفته، فقال: يا أمير ألا أدلك على السحر؟ فنظر عبد الله بن طاهر إلى الكتاب، فقال: لا أدري كيف صنفته."
قال أبو العباس بن سعيد: لو كتب الرجل ثلاثين ألف حديث لم يستطع أن يجمعها إلا بكتاب التاريخ الذي صنفه محمد بن إسماعيل.
مخطوطة الكتاب محفوظة في دار الكتب المصرية تحت رقم الجرد 10340، وقد نشر العمل في تركيا في 9 مجلدات، كما نشر في الهند سنة 1361/1942.
4. كتاب "بر الوالدين" (مجموعة أحاديث في بر الوالدين). وتذكر المصادر أن هذا الكتاب رواه محمد بن دلاوي عن الإمام البخاري، ويعرف محتواه باسمه. وقد كتب حاجي خليفة في "كشف الظنون" يقول: "هذا الكتاب لقلم أبي عبد الله محمد بن إسماعيل البخاري المتوفى سنة 256، وقد رواه عنه محمد بن زكرمة ورق، وهو من تفاسيره الموجودة، وذكره ابن حجر أيضاً". ويُعتقد أن هذا العمل للعالم لم يصل إلينا.
كما أن هناك مصادر مختلفة، منها مقدمات "طبقات الشافعية" و"فتح الباري"، تشير إلى أن الإمام البخاري كتب أيضاً بعض القصائد باللغة العربية، وتقدم نماذج من تلك القصائد.
وصف كتاب الجامع الصحيح للأحاديث
الكتاب الذي يعتبر المصدر الثاني بعد القرآن الكريم في الإسلام هو كتاب "الجامع الصحيح"، وقد طبع هذا الكتاب سلطان علم الحديث وأمير المؤمنين محمد بن إسماعيل البخاري، ووزع بين الأمم الإسلامية في نسخ عديدة، وكتبت عليه مئات التعليقات، وترجم إلى مختلف لغات العالم، وما زال يترجم إلى اليوم. فما هو السبب الذي جعل هذا العمل الذي يأتي في المرتبة الثانية بعد القرآن الكريم من حيث عدد النسخ والاستعمال، يصل إلى هذا المستوى الرفيع؟ فلنتحدث على حدة عن تاريخ وأسلوب تأليف هذا الكتاب المعروف في العالم الإسلامي باسم "الصحيح"، و"الجامع الصحيح"، و"صحيح البخاري"، وهو الطريق إلى السعادة في الدارين.
ومن أسباب تأليف هذا الكتاب قول إسحاق بن راهويه شيخ الإمام البخاري وإمام المؤمنين في علم الحديث، فقد روي عن إبراهيم بن معقل النسفي أن الإمام البخاري قال: قال إسحاق بن راهويه: لو جمعت كتاباً فيه أحاديث صحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعُلقت هذه الكلمة في قلبي، فبدأت في تأليف "الجامع الصحيح".
ولا يخفى أن الإمام البخاري لم يتلق تعليمات من أساتذته قبل تأليف هذا الكتاب فحسب، بل تلقى إرشاداً إلهياً من الله تعالى أيضاً. لأن رؤى الإمام البخاري دليل واضح على ذلك. فقد روي عن محمد بن سليمان بن فارس: قال الإمام البخاري: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، وأنا واقف بين يديه، أهوي نبينا والمروحة في يدي، فسألت بعض المفسرين عن تفسير هذه الرؤيا، فقالوا: إنك تدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم بالكذب. فسمعته يقول: إن هذه الرؤيا دفعتني إلى كتابة الجامع الصحيح. ومن الجدير بالذكر أيضاً أن من رأى نبينا الحبيب في المنام، يعتبر كأنه رآه في الحقيقة. كما كانت هذه الرؤيا للإمام البخاري في الواقع وحياً إلهياً من الله تعالى.
وقد اختلفت المصادر في تحديد مكان تأليف هذه التحفة العظيمة للإمام البخاري، فمنها ما ذكره البخاري في موضع بين قبري ومنابر نبينا صلى الله عليه وسلم، ومنها ما ذكره أبو الفضل المقدسي في كتابه "بخارى"، ومنها ما ذكره بعض المصادر في أن مكان تأليفه هو البصرة، ومنها ما ذكره بعض المصادر في مكة، فقد روي عن عمر بن محمد بن باجر السمرقندي أن الإمام البخاري قال: صنفت كتابي "الجامع" في "المسجد الحرام"، وسمعته يقول: كنت قبل أن أدرج حديثاً في هذا الكتاب أغتسل، وأصلي ركعتي استخارة، ثم أدرجه في كتابي بعد أن أتأكد من صحته. ويبدو أن هذه الروايات متناقضة ظاهرياً. وإذا لخصنا هذه المصادر وتأملناها بدقة تبين لنا أنها كلها صحيحة، لأن الإمام البخاري بدأ تأليف هذا الكتاب في المسجد الحرام حوالي سنة 833م (217هـ) وعمره 23 سنة، وأتمه في المسجد الحرام سنة 849م (233هـ) أي قبل أن يكمل الأربعين من عمره، وذلك على مدى ستة عشر عاماً، ولا يصح أن يكون قد بقي محصوراً في المسجد الحرام طيلة هذه المدة. ومع أن الإمام البخاري ترجم هذا الكتاب الصحيح وصنفه في مدن أخرى، إلا أنه قسمه إلى أبواب ونظمه في المسجد الحرام فقط. وبعد أن انتهى الإمام البخاري من تأليف الكتاب عرضه على الإمام أحمد ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم من علماء المحدثين، فأقروا بصحته وأثنوا على الإمام البخاري.
قبل عمل الإمام البخاري لم تكن الأحاديث تصنف إلى صحيح حسب مستواها، وكان من الشائع في ذلك الوقت بين علماء الحديث دراسة المكانة النظرية لراوي الحديث، هل هو ثقة أم لا، فكانت الأحاديث المروية عنهم تُدرج في الكتب دون تصنيفها حسب مستواها، فاكتشف الإمام البخاري طريقاً جديداً تماماً في مجال دراسات الحديث، فبدأ بذلك "العصر الذهبي" في مجال دراسات الحديث.
كان الإمام البخاري قبل أن يتعلم كل حديث يولي اهتماماً كبيراً للرواة، وورعهم، واتباعهم للشريعة، وعدالتهم الدينية والدنيوية، ولا يأخذ الحديث عن أناس معروفين بضعف إيمانهم وكذبهم. ويروى أن الإمام البخاري سمع حديثاً لم يكن يعرفه، فسافر مسافة طويلة إلى بيت الراوي ليسأله عن إسناده وصحته. ولكن يقال إن هذا الراوي خرج إلى الحقل، إلى أرض كانت له، فلما وصل الإمام البخاري إلى الحقل رأى رجلاً يرفع طرف ردائه ليمسك بفرس هارب، ويتظاهر بأنه يحاول إطعامه، ويناديه، فقال الإمام البخاري: "إن هذا الرجل يخدع بهيمة أعجم، فماذا تنتظرون منه؟"، ثم انصرف ولم يسمع منه حديثاً واحداً. نعم، لقد جمع الإمام البخاري الأحاديث الصحيحة بكل عناية وحرص، ولم يحفظ الأحاديث الموضوعة إلا ليبلغ بها غيره. وقد اختار الإمام البخاري أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم المباركة متسلسلة السند، ورواة الحديث الثقات، وجمعها في كتاب، وبعد ذلك بدأ علم الحديث بفصل الأحاديث الصحيحة وتجميعها.
لقد أبدى الإمام البخاري شجاعة منقطعة النظير في جمع الأحاديث في جامعه الصحيح، فإذا علمنا أن أحاديث الجامع الصحيح انتقيت من بين ستمائة ألف حديث، وأن عدد الرواة المذكورين في السند كان بين ثلاثة وسبعة، وأن الإمام البخاري درس تراجم رجال السند كاملة قبل أن يضم كل حديث إلى الجامع، ثم ضمه إلى الجامع بعد أن بلغ درجة الصحة، نفهم الشجاعة والاجتهاد المنقطع النظير للإمام البخاري (صلى الله عليه وسلم) (رحمه الله) في تأليف الجامع الصحيح، ومعرفته المنقطعة النظير بأحاديث ورواة عصره.
يتألف الكتاب من 97 كتاباً و3881 باباً، ومجموع الأحاديث فيه مع المكررات 7563 حديثاً، وفي إطار الكتاب 1391 حديثاً معلقاً، و344 حديثاً مشتقاً من حديث، ومجموع الأحاديث في هذا الكتاب 9082 حديثاً. وإذا علمنا أن الإمام البخاري انتقى أصح الأحاديث من بين ستمائة ألف حديث، تتضح لنا قيمة أخرى لا تضاهى لهذا الكتاب. وإذا تذكرنا أيضاً أنه أدخل كل حديث في مجموعته بعد الغسل وصلى الركعتين، تتضح لنا هذه القيمة أكثر.
كلما قرأنا هذا العمل الذي يعتبر خلاصة التراث العلمي والروحي للإمام البخاري، انكشفت جوانبه وحكمه التي لم تكن مكتشفة بعد.
وليس هذا فحسب، بل إن أعمالاً أخرى لهذا العالم تشهد على عمق علمه ونضجه. فبالإضافة إلى دراسة الحديث، قدم الإمام البخاري مساهمة كبيرة في تطوير التاريخ والأخلاق والفقه الإسلامي.
في عصرنا هذا، يحظى إرث سلطان الحديث بالاعتراف الدولي. ويعمل المركز الدولي للأبحاث العلمية الذي يحمل اسم العالم في سمرقند بلا كلل في هذا الصدد، ويدعم حكومة أوزبكستان ويتعاون مع المؤسسات العلمية الدولية لدراسة وتعزيز أعمال الإمام البخاري.
إن كل عمل للإمام البخاري يعد مصدراً للمعرفة لدى المسلمين، ولا يزال مهماً في التربية الأخلاقية والتوجيه العملي الديني وإثراء المعرفة التاريخية. إن تراثه العلمي الذي يظهر بوضوح قوة المعرفة والصبر والإيمان، ليس جزءاً من تاريخ الإسلام فحسب، بل إنه أيضاً مصدر إرشاد للتنمية الروحية للمجتمع.