نحو إدارة محلية تحقق الكفاءة والتنمية المستدامة.
28-01-2025 11:50 PM
الإدارة المحلية هي الأساس الذي يُعتمد عليه لتحسين حياة الناس في المجتمعات، وهي الأداة الأكثر فعالية لتلبية احتياجات المواطنين والسعي نحو تحقيق تطلعاتهم. وهذا لا يمكن أن يتحقق إلا عبر رؤية شاملة تُعنى بالبيئة، والتنمية المستدامة، والعدالة الاجتماعية. ومن هذا المنطلق، يصبح مفهوم “أنسنة المدن” (City Humanization) ضرورة لا يمكن تجاهلها في أي عملية تحديث للإدارة المحلية. أنسنة المدن تعني ببساطة خلق بيئة حضرية تراعي احتياجات الإنسان الأساسية، وتعتمد على تحسين التخطيط العمراني، وزيادة المساحات الخضراء، وتطوير بنية تحتية مستدامة تتكامل مع وسائل نقل آمنة وسهلة الوصول، إلى جانب الالتزام بمعايير بيئية وصحية تجعل الحياة في المدن أكثر راحة وسلامة.
تواجه المدن الأردنية تحديات واضحة في هذا الإطار، حيث يوجد في بعض المناطق تدهور في البنية التحتية وغياب التخطيط الذي يضع الإنسان في صميم الأولويات. ولذلك، هناك حاجة ملحة إلى دمج مفهوم “وضع الإنسان في مركز الأولويات” في صلب أي إصلاح إداري أو تنموي. تحسين جودة الحياة اليومية للمواطنين يتطلب التركيز على التخطيط البيئي والتنموي الذي يعزز الرفاهية العامة.
في هذا السياق، لا يمكن إغفال أهمية العنصر البشري المؤهل كعامل حاسم في نجاح الإدارة المحلية. وهنا يبرز الدور الحيوي للمهندسين الذين يمثلون مورداً وطنياً غير مستغل بشكل كافٍ، رغم إمكاناتهم الكبيرة. إن ارتفاع معدلات البطالة بين المهندسين في الأردن مقارنة بعدد السكان يطرح تساؤلات حول كيفية استثمار هذه الفئة بطريقة تساهم في تحسين الأداء البلدي. من هنا، يمكن أن تكون فكرة تخصيص “كوتا” ملزمة لانتخاب عدد معين من المهندسين في المجالس المحلية والبلدية خطوة عملية وفعالة. إشراك هذه الفئة في عملية اتخاذ القرار البلدي سيضيف قيمة حقيقية، خاصة أنهم يمتلكون التأهيل العلمي الذي يجعلهم الأكثر قدرة على معالجة القضايا الهندسية والبيئية التي تُعد جوهرية في الإدارة المحلية الحديثة. هذا التوجه سيضمن أيضًا تسريع وتيرة الإصلاحات المتعلقة بالتخطيط الحضري والبنية التحتية بشكل أكثر كفاءة.
أما بخصوص اشتراط المؤهلات الأكاديمية كمعيار أساسي للترشح للمناصب المحلية، فإن هذه الخطوة، رغم إيجابيتها في ضمان حد أدنى من الكفاءة العلمية، قد تُغفل أهمية الكفاءات العملية والخبرة المهنية، وهي عناصر لا تقل أهمية عن الشهادات الأكاديمية. الحل الأمثل هنا يكمن في الجمع بين المؤهلات الأكاديمية والكفاءات العملية لضمان اختيار قيادات تمتلك المعرفة والمهارات التي تؤهلها لتلبية تطلعات المواطنين. ولتعزيز هذا التوجه، ينبغي تصميم برامج تدريب نوعية تركز على مفاهيم إدارة المشاريع، وكيفية إدارة الموارد بكفاءة وفعالية، إلى جانب استخدام الأدوات والمهارات الحديثة التي تلبي احتياجات العمل البلدي. ومن المهم أن تكون هذه البرامج محددة الأهداف، بحيث تُقدم قيمة مضافة فعلية بدلاً من أن تكون مجرد أنشطة تدريبية شكلية لا تترك أثرًا ملموسًا.
وفيما يتعلق بآلية انتخاب رؤساء البلديات، فإن التوصية بإلغاء الانتخاب المباشر للرئيس واستبداله بانتخابه من داخل المجلس البلدي قد تثير العديد من التساؤلات. الانتخاب المباشر يمنح المواطنين الحق في اختيار قيادتهم المحلية بشكل ديمقراطي ويعزز من شعورهم بالمشاركة والمسؤولية تجاه العملية الانتخابية. بينما تهدف التوصية إلى تحسين التنسيق بين الرئيس وأعضاء المجلس، إلا أن إلغاء الانتخاب المباشر قد يؤدي إلى تقليص هذه المشاركة وإضعاف الثقة بين المواطن والمؤسسات. بدلاً من الإلغاء، يمكن تحسين آلية الانتخاب المباشر والمخرجات من خلال وضع شروط ومعايير إضافية، مثل خبرات ادارية نوعية وإلزام المرشحين بتقديم برامج انتخابية مُلزمة مدعومة بخطط عمل واضحة، على أن يترك تقييم هذه البرامج للمواطن.
أما الشراكة مع القطاع الخاص، فهي جانب آخر حيوي ركزت عليه التوصيات، لما لها من أهمية في دعم المشاريع التنموية وتعزيز الاستثمار. ومع ذلك، لا يمكن ضمان نجاح هذه الشراكات ما لم تكن مبنية على قواعد شفافة وآليات تحمي العدالة في توزيع العوائد والمكاسب. يجب أن تكون الشراكات بين القطاعين العام والخاص أداة لتحقيق التنمية المستدامة، مع التأكيد على نشر تفاصيل المشاريع والشراكات عبر منصات إلكترونية تتيح للمواطنين الاطلاع عليها، مما يُعزز الثقة والمصداقية.
إن الإدارة المحلية ليست مجرد هيكل تنظيمي، بل هي منظومة تتكامل فيها عوامل التخطيط البيئي، والاستفادة المثلى من الموارد البشرية المؤهلة، والسعي نحو تحقيق التنمية المستدامة، وهي خطوات ضرورية لإدارة محلية حديثة قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق تطلعات المواطنين.