وعد بلفور2 والنموذج الثقافي الأردني
أ.د. هيثم العقيلي المقابلة
27-01-2025 12:09 PM
تصريحات ترامب برأيي هي عنوان و بمثابة وعد بلفور جديد لتطبيق مشروع قديم حديث قوامه المبرر القديم انه كما ان فلسطين ارض بلا شعب و بالتالي استيطان اليهود مبرر فالاردن ارض بلا شعب و الفلسطينيين وطنهم و دولتهم هنالك. الاخطر في التوقيت هو غياب نموذج ثقافي اردني يؤكد ان هنالك شعب عربي اردني على ارض الاردن و هذه ليست مسألة سطحية تحل بأن يقول قائل اننا جميعا نعرف ان الاردن دولة و شعب قائم فهذا الخطاب الذاتي و لكن هنالك خطاب يوجه للدول و النخب المؤثرة في العالم. أذكر أنه قبل الحرب الروسية الاوكرانية كان هنالك ضخ اعلامي ان هنالك شك بوجود أمة أوكرانية لها خصوصية ثقافية او تاريخية و اذكر ان احد من طرح ذلك كان مستشارا المانيا سابقا (اتوقع شرودر). ما اقصده هنا ان لا وطن بديل بدون مبرر ثقافي و سيبدا الضخ الاعلامي بأن الاردن كانت ارض بلا شعب و يساعد غياب نموذج ثقافي اردني واضح المعالم فكما ذكرت في مقال سابق ان الدول تقوم على عاملي انتاج و ثقافة و ما يعطي الاحقية التاريخية هو العامل الثقافي. فالصراع بين اليهود و الفلسطينيين هو ثقافي في جذره اي من صاحب الحق التاريخي بالارض وفقا للمصادر و الاعلام و النخب الغربية و الصراع. مثلا الصراع بين روسيا و اوكرانيا هو ثقافي في جذره و مشروع الملالي هو ثقافي في جذره و عندما احتلت فرنسا الجزائر و ايطاليا ليبيا كان الطرح ثقافي في جذره و حاولت كلاهما تغيير الواقع الثقافي.
ما اطرحه هنا ان الحصانة الداخلية تبدأ بنموذج ثقافي اردني متكامل يمتد منذ اصل العروبة في شمال شرقي الاردن (حرة الشام) و المعركة التي خاضها الملك جندب ضد الملك الآشوري و تمر باول منطقة استيطان بشري في شرق المفرق (اول رغيف خبز اي اول عهد الزراعة) و يمر بعين غزال و التماثيل التي تمثل استقرارا و امن غذائي لان الفنون و الثقافة تبدأ بعد الاستقرار و الازدهار و يمر النموذج الثقافي الاردني باول تدجين للحيوانات في المصائد الحجرية في جنوب الاردن و هي مرحلة انتقال الانسان من صائد لاقط الى الرعي (بالتدجين) ثم الزراعة و يمر ايضا باول حضارة عربية في البتراء و التي كانت مرحلة كتابة العربية التي كانت لغة محكية و لكن تكتب بالصفائية شمال شرق الاردن و بالارامية و بالسريانية الى ان تشكل الحرف النبطي و يتدرج النموذج الثقافي ليصل الى نشأة الاردن الحديثة بقيادة الهاشميين الذين وحدوا العشائر الاردنية بشرعيتهم الدينية و التاريخية و النضالية التي ترتبط بالنبي المصطفى عليه السلام. في غياب مشروع ثقافي اردني و نخب ثقافية و سياسية و فكرية يخاطب العالم و يحاجج الفكر في الغرب باللغتين العربية و الانجليزية فإن الغرب و معه للاسف تيارين ديني و ليبرالي (تلتقي الاهداف بحسن او سوء نيه) سيبدا في التمهيد للوطن البديل تحت عناوين انسانية و قانونية و دينية تعمل على تهميش الهوية الثقافية الاردنية و التي تعتبر ضرورة لابراز الهوية الفلسطينية على الارض الفلسطينية لتواجة السعي لفرض الهوية اليهودية على الارض الفلسطينية (يهودية الدولة).
سابحر قليلا في موضوع النموذج الثقافي و مقوماته و الياته للايضاح.
ذكرت في مقال سابق ان الدول و المجتمعات تقوم على عاملي الثقافة (آلية التفكير) و الاقتصاد (الية الانتاج). ينغمس الافراد و المجتمع و بعض المسؤولين في القضايا السياسية و الصعوبات المعيشية و يتم تهميش النموذج الثقافي و الذي كان دوما اساس التغيير و التنمية و التطوير حيث ان الافكار عابرة للمكان و الزمان و تمتلك قوة ناعمة خفية فقد انتشرت و تطورت و أثرت الحضارات عبر افكارها و قيمها و ليس ادل على ذلك من الثقافة الغربية الحالية التي قامت على افكار الثورة الفرنسية و الثقافة العربية الاسلامية التي قامت على افكار الرسالة المحمدية.
النموذج الثقافي لاي مجتمع هو مجموعة قيم تحدد آلية العيش و السلوك بالتالي فهي تمس كل تفاصيل الحياة. و قوة النموذج من قوة اللغة (و ما ينبثق عنها من لهجات) و قوة الناقل (حاليا وسائل التواصل و القنوات الفضائية) خصوصا ان الناقل يستهدف الاطفال و المراهقين الذين لا يملكون حصانة تمحيص التدفق الثقافي و يستهدف الجماهير من خلال عقلها الباطن المحكوم بالعواطف.
من أجل نموذج ثقافي لا بد من الاتفاق اولا على القيم التي نريد زرعها في المجتمع ثم نحدد اليات و نواقل ايصالها خصوصا ان الجماهير اليوم تحت تأثير تيارات سياسية و دينية و قبلية و طائفية و غربية غير وسطية و برايي قليل منها من يقبل الاخر.
برايي ان القيم المنبثقة من موروثنا الاجتماعي و الديني و المتوافقة مع العصر هي القيم الوسطية القائمة على الحوار و قبول الآخر و نبذ العنف و التعصب و احترام ثقافة الآخر فردا او مجتمعاً و لكن هذه تحتاج حد أدنى من العدالة الاجتماعية و البعد عن التهميش.
برأيي أن القدوات هم حلقة الوصل التي تحدد النموذج الثقافي و بالتالي فإن تهميش المبدعين و المثقفين و المفكرين و اصحاب المحتوى البناء لصالح السطحية هو القاتل الصامت للنموذج الثقافي و الذي يفقد الفرد و المجتمع الثقة بالذات و الشعور بالقيمة الذاتية.
الفنون و وسائل التواصل الاجتماعي في العالم الثالث اخطر بكثير مما يظهر فهي الناقل الحقيقي للثقافة لغياب عادة القراءة و المطالعة. لذلك فإن الفنون و تطبيقات التواصل الاجتماعي ليست ترفيهية فقط و لكنها ادوات توعية او تجهيل، و ادوات تمتين للجبهة الداخلية او تفكيك و ليس ادل على ذلك من صراع اكبر قوتين في العالم الصين و امريكا على تطبيق التوكتوك لان كليهما تدرك اهمية التطبيقات في توجيه الراي العام و التأثير الشعبي في الاحداث و طغيان نموذج ثقافي على آخر.
نحن في منطقة تزخر بالصراعات الثقافية و التي تأخذ أشكالاً دينية و طائفية و وطنية و قومية و قبلية و لا يجوز ان تترك الساحة بدون نموذج ثقافي خاص بنا فالفيزياء لا تقبل الفراغ و الذي سيملأه نموذج آحر منافس يسيطر ببطء على عقول مجتمعنا مستغلا اي قضية او صعوبات العيش.
كون اللغة و اللهجة هي الحامل للنماذج فلا يجوز ان تقدم بطريقة استفزازية او منفرة او فيها جلد الذات و التنمر و هذا ألاحظها في كثير من الفيديوهات للأسف فالعربية الفصحى هي لغة كتابة و لغة رسمية و لكن اللهجات تمثل خصوصية و جزء من مظاهر هوية كل مجتمع عربي و لا تتعارض مع الفصحى.
كما لا يجوز تقديم العادات و التقاليد العربية بطريقة منفرة بل نعزز منها النبيل و نرفض منها المؤذي.
لذلك الخص و اقول ان انشاء نموذج ثقافي اردني هو ضرورة و هذا النموذج ان يأخذ بالاعتبار القيم المشتركة و الحوار و قبول الاخر و سعة المدارك و عدم الإقصاء و نبذ العنف و من ثم توضع الاليات و الادوات لايصاله للافراد من خلال وسائل التواصل بالدرجة الاولى بطريقة سلسة (سكتشات، افلام قصيرة، صناع محتوى، دعايات، حوارات مع القدوات..الخ) ثم نعيد التقييم كل فترة زمنية للتعديل و اؤكد مرة اخرى ان ما يجمعنا في اي مجتمع مئات اضعاف ما يفرق و لكن دعاة التفريق اصواتهم عالية و برامجهم منظمة.
دمتم بود..