ترشيد الاستهلاك ثقافة وقيمة
د. أميرة يوسف ظاهر
16-01-2025 12:12 PM
في ظل تفاقم الازمات الاقتصادية في العالم، وتذبذب القوى الشرائية للعملات المحلية وتصاعد أسعار المعادن الثمينة وزيادة أسعار السلع، صار من الواجب البحث عن سلوكيات جديدة في المجتمعات في سبيل مواجهة هذه التحديات. وتتطلب هذه الظروف تعزيز ثقافة الترشيد والاستهلاك الواعي، وتشجيع الادخار والاستثمار الآمن، وتنمية المشاريع الصغيرة والمتوسطة التي تساهم في خلق فرص عمل وتحسين الأوضاع الاقتصادية، إذ أن هناك مجتمعات تبالغ في السلوك الاستهلاكي، بحيث تتحول بعض العادات الاستهلاكية إلى جزء من القيم الاجتماعية، مما يعزز ثقافة الاستهلاك المفرط بدلاً من ثقافة الإنتاج أو الادخار؛ ففي بعض الفئات، يُنظر إلى الشخص وتُقيم مكانته الاجتماعية بناء على أسلوبه الاستهلاكي، ودرجة الإنفاق على الكماليات، بل وأحيانا على مظاهر البذخ غير المبرر، مما يؤدي إلى تعزيز عادات استهلاكية غير ضرورية وإلى انزلاق المجتمع نحو نمط حياة يفتقر إلى الاستدامة الاقتصادية.
وتزداد النفقات غير الضرورية بشكل لافت في المجتمعات التي يعاني فيها دخل الفرد من التراجع، أو في المجتمعات التي تعتمد بشكل كبير على الاستهلاك نتيجة زيادة الدخل الناتج عن توفر المواد الأولية أو المصادر الطبيعية. هذا النمط الاستهلاكي يؤدي إلى سوء إدارة الموارد المالية، حيث يتوجه الإنفاق بشكل كبير نحو الكماليات والسلع غير الضرورية بدلًا من تعزيز الادخار أو الاستثمار.
وفي السياق الأردني، يمكن ملاحظة بعض العادات الطارئة التي ساهمت في تضخم النفقات غير الضرورية، خاصة في مجالات مثل الصرف على الهواتف الخلوية؛ فقد أصبحت الأجهزة الذكية واشتراكاتها والملحقات المرتبطة بها من أهم مصادر الإنفاق غير الضروري لدى العديد من الأسر من قبل الأبناء بمختلف الاعمار، دون التقيد بمستوى العائلة الاقتصادي.
نظرًا لأن معظم الشباب والشابات يحصلون على مقاعد جامعية، وبالنظر إلى أن التعليم الجامعي يشكل عبئًا ماليًا كبيرًا على العائلات، فقد اضطرت العديد من الأسر إلى الاقتراض وتحمل الديون لتغطية تكاليف تعليم أبنائها وبناتها. هذا الوضع يضع ضغوطًا هائلة على أرباب الأسر الذين يجدون أنفسهم مطالبين بتوفير موارد مالية تتجاوز إمكانياتهم، كما يضيف أعباءً إضافية على الدولة، التي تصبح مسؤولة عن توفير فرص عمل مناسبة لهذه الأعداد المتزايدة من الخريجين سواء في القطاع الحكومي أو الخاص.
فالمواطن الأردني نتيجة الثقافة الاستهلاكية السائدة، يميل إلى تجنب المغامرة في إقامة مشاريع خاصة يمكن أن تسهم في بناء الاقتصاد الوطني. وبدلاً من ذلك يركز الكثيرون على تحقيق أهداف شخصية مرتبطة بمظاهر الراحة المادية، مثل امتلاك سيارة، والسعي للحصول على وظيفة مستقرة، وحيازة وسائل الراحة المختلفة، حتى لو كان ذلك يأتي على حساب تآكل دخل الأسرة وتفاقم الأعباء الاقتصادية على المجتمع بشكل عام.
وقد ظهرت في المجتمع عادات جديدة، منها إقامة حفلات التخرج في القاعات والفنادق، تليها حفلات أخرى عند إعلان التخرج. والملفت أن هذه الظاهرة لا تقتصر على العائلات الميسورة فقط، بل يمتد تأثيرها إلى العائلات ذات الدخل المحدود، التي تقدم على تحمل أعباء مالية كبيرة خوفًا من أن يشعر أبناؤها بالنقص مقارنة بأبناء الأغنياء. وهذا التوجه أدى إلى تنافس اجتماعي بين الطبقات، إذ أصبحت تكاليف الحفلات ومستواها معيارًا للتفاخر، مما دفع المجتمع نحو سلوكيات شكلية لا تحمل قيمة حقيقية، ومع ذلك فإن الحكومات لا تبذل جهودًا كافية، سواء بوسائل مباشرة أو غير مباشرة، للحد من هذه الظاهرة التي تثقل كاهل الأسر، خاصة تلك ذات الدخل المحدود. ولا تقوم مؤسسات المجتمع المدني بالدور المطلوب منها للتخفيف من أعباء هذه الظاهرة التي تؤثر بشكل كبير على شريحة واسعة من المجتمع، وهذا القصور يزيد من معاناة الفئات المتضررة التي تجد نفسها مضطرة للانخراط في عادات اجتماعية مكلفة للحفاظ على مكانتها الاجتماعية، مما يؤدي إلى استنزاف مواردها المالية، وفي المقابل تستفيد فئة محددة من التجار الذين تخصصت أعمالهم في تقديم الخدمات والمنتجات المرتبطة بهذه المظاهر الاجتماعية لتلبية الحاجة النفسية والاجتماعية للأفراد، وتعمل على جذب ما تبقى من أموال في جيوب الطبقة الوسطى والفقيرة، مما يزيد من تآكل قدرة هذه الطبقات على تلبية احتياجاتها الأساسية.
وفي قطاع السيارات يبرز نمط استهلاكي يُظهر تنافس الأغنياء على اقتناء أحدث السيارات الفاخرة بأسعار مرتفعة، بينما يتجه الأقل غنى لشراء السيارات المستعملة والمتهالكة التي يتخلّى عنها الأغنياء. ويتم ذلك غالبًا بقروض بنكية بفوائد مرتفعة، مما يؤدي إلى سلسلة من النتائج السلبية التي تؤثر على الفرد والمجتمع. وتمتليء شورع المدن بسيارات لا تعطي انطباعات حسنة، وتزيد من الدخل المخصص للسيارة وصيانتها، وتذهب الرواتب القليلة للبنوك ولصيانة السيارات، ويصير لزاما على متخذي القرارات الخاصة بالمدن إلى توسيع مساحات الشوارع وهذا لا يحدث كثيرا، فتزداد الحوادث وتكثر المخالفات المرورية، وترتفع فاتورة السير على حساب قطاعات أكثر أهمية لخدمة المواطن وتنمية الوطن.
وهناك الكثير من العادات المرتبطة بالغذاء، فمع شح المياه تراجعت الزراعة، وصارت الزراعة المنزلية شيئا من الماضي، واختفت معها الآبار الشتوية التي تسهم في التنمية المجتمعية فيما يتعلق بتوفير الماء والزراعات المنزلية الخفيفة، وفي سياق هذا كله فعلى المجتمع من خلال مؤسسات التربية والتعليم، ووسائل الإعلام والمجالس المختصة والجامعات أن تقدم برامجها من أجل التقليل من الاستهلاك بتغيير الكثير من العادات الاستهلاكية غير الايجابية، وتطوير آليات الاستثمار في الكثير من المشاريع ذات المردود الاقتصادي بأقل التكاليف، ثم على مجلس النواب أن يقدم مشاريع قوانين تسهم في تغيير منظومة عادات لا تمت لمجتمعنا بأي صلة.