حكومتنا الرشيدة .. ما هكذا يكرّم "الأخيار"
فيصل تايه
15-01-2025 11:03 AM
المحطة التي يتوقف الموظف فيها عن أداء عمله "المعتاد" بصورة نهائية هي "التقاعد"، والتي يصل اليها مع نهاية خدمته الوظيفية، ولا يعني كما يتوهم كثيرون ان إحالة الموظف الى التقاعد يعني احالته إلى "الراحة الإجبارية" وانه أصبح غير قادر على العطاء، أو أنه فقد أهليته على العمل، بل ان ذلك "وكما هو معروف" يتم وفق قانون "التقاعد المدني"، وبمقابل ذلك يمنح المتقاعد "راتب التقاعد" من الدولة، وكما نعلم أن أموال "الرواتب التقاعدية" تجمع من اقتطاعات سنوات العمل من إدخارات الموظف ، اضافة الى مساهمات الدولة اعترافاً بعطاء موظفيها ، مع استكمال الحقوق المادية التعويضية ، وبذلك فان "راتب التقاعد" ليس منحة أو هبة، بل هو حق مستحق مكفول .
اننا هنا وحين نتحدث عن "المتقاعدين" من مختلف القطاعات الحكومية باعتبارهم موظفين رسميين وخاصة "الموظفين الأوائل" ، ممن هم على نظام التقاعد المدني ، واعتقد أن أغلبهم قد غادر إلى الحياة الأخرى ، فليس من الممكن ان ننسى او نتناسى هؤلاء "الاخيار" من رجال أفذاذ ونساء متفردات ، فازوا بسمعات يحسدون عليها ولائيا ووطنيا ، واستطاعوا أن “يحافظوا ” على اسم الأردن وعلى سمعتهم في كافة مواقع عملهم ، بل وكانوا "قدوات" مثلى لزملائهم في العطاء والانضباط والتكوين النوعي ، وما يحز في نفوس عارفي أفضالهم أنهم غادروا دنيانا في كنف صمت مطبق!. وحتى الوزارة او المؤسسة المعنية التي عملوا بها لم تكلف نفسها إعلان نعايا رحيلهم ، وتعزية ذويهم؟. ومن المحزن أن يصل النكران وعدم الاعتراف بالجهود الجبارة "لابناء عظماء" إلى هذا المستوى من التناسي؟
نعم ، انه جيل وفيّ وفاء للقيم والمبادئ ، وهم أسماء بارزة تسلحوا بالكفاح والمثابرة وبالغيرة المحمودة على القطاع الحكومي ، وطبعوا سيرهم بطوابع ذات مقامات مرفوعة ، فكيف تطوى صفحاتهم من دون ذكر أو شكر؟. ولمَ لمْ يؤخذ من معين خبراتهم الغنية في مختلف المجالات الوظيفية ، وكيف يستغنى عن أمثالهم والاسماء كثيرة والقائمة مفتوحة ، أوليس هؤلاء "الاخيار" من ضحوا وثابروا وصنعوا الكفاءات التي يزخر بها الوطن في كل القطاعات؟ اوليس من المهم أن يعرّف بعظائم أعمالهم التي ترى مرسومة في شخصية كل من ذكرهم مباهيا وفخورا ، اوليس من الواجب أن تكتب في حقهم المراثي المبكيات نثرا وشعرا ، وأن تدوّن سيّرهم المضيئة في صحائف نيرة ، وأن تنشر بين الورى ، وأن تقرأ بصوت عال مزلزل لاستلال العبر، وأن يكرّم كل واحد منهم تكريم خدام الوطن الكبار وبناته البسلاء ، فهل من العدل والحق أن يموت من خدم الاردن ولا نجد في موكب تشييعه سوى أهله وأقرب مقربيه؟؟. فعلى مدار السنوات الأخيرة فقدنا أطوادا شامخة راسخة، ولم نسمع برحيل معظمهم إلا بعد مضي شهور أو سنوات ، "رحمهم الله جميعا" .
انني وانا اطرح هذا الموضوع ما "يحز في النفس" ان الكثير من "المتقاعدين" وهم الأفضل منا جميعاً ، ما زالوا يصارعون متاعب الحياة وحيدين ، ولم يلتفت إليهم أحد ، وعانوا من تفاقم الأمراض المزمنة التي أتعبتهم ، ومن التهميش والازدراء ، ولم يسعدوا في سنوات تقاعدهم بسبب هزل رواتهم التقاعدية ووضاعتها، وعاشوا ألواناً من الغبن والحرمان ، وتقاعدوا ولم يستفيدوا من رواتبهم المعاشية ما يحفظ ماء وجوهم ويصون كرامتهم ، وأمضوا نهايات أعمارهم في فاقة وعوز بعد أن أتعبهم غلاء المعيشة ، ناهيك ان "المتقاعد" يبقى طوال عمرة يتحمل أعباء تسديد ديونه ، وهل يعقل أن يبقى راتبه التقاعدي مرهون للقروض والأقساط البنكية لمدة زادت عن "ثلاثين سنة" واكثر عند بعضهم؟ سدادا لثمن "شقة" تأويه او "ديناً" لتعليم ابنائه ، فأي جور هذا الذي لا يضاهيه أي جور؟. ولو حكمنا العقل ، فالبعض منهم "لحقتهم" الديون إلى قبورهم بعد فوات الآوان؟.
هي محاكاة للضمير ، فمن ينصف هؤلاء؟، ومتى ينصفون؟. ولماذا يحرم هؤلاء "الاخيار" من الحقوق التي تمنحهم حياة امنه مستقرة ، فهذه صرخة في وجه "أبناِؤهم الروحيين" والذين كانوا يوماً ما تحت امرتهم ممن تولوا المناصب العليا ونسوا فضلهم عليهم ، وتنكروا لهم، ولم يقلقوا أنفسهم في الدفاع عنهم في الحضور وفي الغياب ، و"انشغلوا" بسن القوانين التي "فصلت" على مقاس من هم منهم على راس عمله ، دون ادنى اكتراث ممن سبقوهم ، ولكن الأعمار بيد الله .
انني وحين اتواصل مع العديد من المتقاعدين ، فاني اجد في عيونهم العتب الكبير على دولتهم وحكوماتهم المتعاقبة ، اذ يتراءى في "اغلب الضن" عند الكثيرين منهم وكأن جهات خفية تعمل على بتر جسور الربط وقطع خيوط الوصال مع من خدموا هذا البلد الاشم ورفعوا لواءه بمجرد أن "يتدحرجوا" إلى التقاعد على خلاف ما يجري في كل القطاعات غير الحكومية ، ولا نستطيع ان ننكر ان من هؤلاء طاقات ماتزال قادرة على تقديم ما ينفع الدولة في كل الجوانب القانونية والتنظيمية ، فهل الاستفادة من خبراتهم تسبب في اعتلال الصحة وأصابتها بأسقام منهكة .
اقولها بمرارة كيف لا يفسح المجال للأخيار "الباقين" منهم "اطال الله في اعمارهم" للاخذ بآرائهم ؟ أو حتى الاجتماع معهم ليستمعوا إلى "بكائيات وزاراتهم" او مؤسساتهم التي لا تنتهي والإصغاء إلى بعض القيادات التي هلكت الحرث والنسل ، وساهمت في تصحير ميدان الادارة الحكومية ، فوالله ان رايهم فيما انتم فيه هو الراي الأنفع والأفضل والأفيد .
وأخيراً وان اطلت وللحقيقة ، فلا أريد أن يفهم من مضمون هذه السطور انها صرخات استجداء أو استعطاء أو استعطاف، وإنما نرجو أن تقرأ قراءة مستقيمة ونظيفة من كل عوج تأويلي ، وخالية من أوهام التصوّرات التي لا تليق برجال الدولة وابنائها في كل المستويات ، ومجردة من رذائل التفكير الانتهازي التفردي ، وهي القراءة التي تؤسس لتنقية فضاء الدولة من شوائب حب الذات والانتصار لها ولو على حساب الاحبة الذين تتعاقب أجيالهم وتتلاحق في تسلم أمانة تشييد بناء مستقبل الوطن الثقيلة.
والله ولي التوفيق
مع تحياتي