خدعوك فقالوا: التعليم العالي عربياً لا يتوقف على أحد
د. هاني الضمور
14-01-2025 12:13 PM
في كل مرة تُثار فيها أزمة في مؤسسات التعليم العالي بالعالم العربي، تُرفع شعارات مثل “المكان مايتوقفش على حد”، لتبرير تغييرات إدارية أو قرارات استغناء عن كوادر أكاديمية متميزة. هذه العبارة التي تبدو جذابة ظاهريًا تحمل في طياتها أزمة عميقة في فهم طبيعة القيادة وأهمية الكفاءات في المؤسسات التعليمية. واقع التعليم العالي في العالم العربي يثبت عكس هذه المقولة؛ فالكفاءات المتميزة والقادة المؤثرون هم من يصنعون الفرق ويقودون التطور.
مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي تُدار في الغالب بأنظمة بيروقراطية جامدة تعطي الأولوية للمظاهر الإدارية على حساب الكفاءات البشرية. في كثير من الأحيان، يتم الاستغناء عن أكاديميين بارزين بحجة تقليل التكاليف أو اتباع سياسات جديدة، دون إدراك أن هؤلاء الأشخاص هم المحرك الأساسي لنجاح المؤسسة. النتيجة تكون تراجعًا في جودة التعليم وضعفًا في الأداء البحثي، وهو ما ينعكس سلبًا على سمعة المؤسسات وقدرتها على المنافسة عالميًا.
الأزمة تزداد تعقيدًا عندما يرتبط التغيير في القيادات والكفاءات لأسباب سياسية أو شخصية بحتة، مما يضيف بعدًا مقيتًا للقرارات الإدارية. في كثير من الحالات، تُستبعد الكفاءات ليس لضعف أدائها أو عدم توافقها مع الأهداف المؤسسية، بل بسبب خلافات شخصية او تحيزات جغرافية أو لتصفية حسابات سياسية داخل المؤسسة. هذه الممارسات لا تضر فقط بالجامعات، بل تُفقدها مصداقيتها أمام المجتمع وتدمر بيئتها الإبداعية. كيف يمكن لمؤسسة أن تزدهر وهي تُدار بعقلية الإقصاء والتصفية، بدلًا من عقلية التقدير والاحتواء؟
التجارب العالمية تُظهر أن الجامعات التي تتصدر التصنيفات العالمية تُركز بشكل أساسي على استقطاب الكفاءات المتميزة والحفاظ عليها، بينما في العالم العربي نجد أن كثيرًا من الجامعات تنظر إلى التعليم كمنظومة إدارية بحتة. هذا الفهم القاصر يؤدي إلى هجرة العقول العربية إلى الخارج، حيث تُقدَّر كفاءاتهم وتُمنح الفرص للإبداع. المفارقة أن هذه العقول المهاجرة تُحقق نجاحات بارزة في جامعات عالمية بينما تعاني الجامعات العربية من نقص حاد في القيادات الأكاديمية المبدعة.
رؤية التعليم العالي كمنظومة تعتمد على الأفراد لا تتناقض مع أهمية العمل الجماعي، بل على العكس، تعزز من قوة المؤسسة. الأفراد المتميزون هم من يقودون التغيير ويبتكرون الحلول، وهم القادرون على تطوير مناهج تعليمية مواكبة للعصر. عندما تُدار الجامعات بروح تقدّر الأشخاص المؤثرين، تتحول إلى مراكز إبداع تُسهم في تطوير المجتمع والاقتصاد. أما الاعتماد على مقولة “المكان لا يتوقف على أحد”، فهو اختصار لمشاكل أكبر تتمثل في ضعف الرؤية الإدارية وانعدام التخطيط الاستراتيجي.
التغيير في مؤسسات التعليم العالي بالعالم العربي يتطلب إعادة النظر في طريقة إدارة الموارد البشرية. الجامعات بحاجة إلى رؤية تُقدّر القيادة الأكاديمية وتشجع على الابتكار. بدلًا من النظر إلى الكفاءات كمجرد أرقام قابلة للاستبدال، يجب أن تُعامل كأصول استراتيجية. هذه الرؤية لا تتحقق إلا من خلال خلق بيئة تعليمية محفزة تُعزز من مكانة القادة الأكاديميين وتوفر لهم المساحة للإبداع والتطوير.
الرسالة التي يجب أن تتبناها مؤسسات التعليم العالي في العالم العربي هي أن النجاح يبدأ من الإنسان. الجامعات ليست مجرد مبانٍ ومناهج، بل هي كيان ينبض بعقول من يعملون فيها. إذا أُحسنت إدارة هذه العقول وتم الاستثمار فيها، فإنها ستكون قادرة على تحويل الجامعات العربية إلى مراكز عالمية للتميز والإبداع. أما الاستمرار في استبعاد الكفاءات لأسباب سياسية أو شخصية، فهو وصفة مؤكدة للفشل والانحدار.