برهومة يكتب: ترامب وماسك والفاشية المقبلة
د. موسى برهومة
13-01-2025 10:38 AM
بتولي دونالد ترامب رئاسة الولايات الأميركية المتحدة، سيبدأ تدشين عهد جديد مليء بالمفاجآت والصدمات والانقسامات والكراهية، وسيكون بلا ريب مكتظاً بالكوميديا السوداء. فماذا يعني ذلك؟
لا بد من عودة سريعة إلى السباق الانتخابي بين ترامب والمرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، والذي تعدى كونه صراعاً بين برنامجين انتخابيين، بل بين قيم ثقافية اختار الأميركيون الانحياز فيها إلى ترامب الذي يمثل اليمين الأميركي القائم على الشعبوية، والطامح إلى استعادة المجد "الإمبراطوري" للأمة، وهو ما تجسده حركة "اجعلوا أميركا عظيمة مجدداً" (MAGA) التي تفصح عن شعور طاغٍ بالتفوق، والضيق بالآخر غير الأبيض، وتتبنى، بالتالي، الأفكار المتصلة باللون والعرق والمنبت، حيث انتقدت هاريس (الموصوفة باليسارية الراديكالية) ترامب الذي "يهين المتحدّرين من أصول لاتينية، ويجعل من المهاجرين كبش فداء".
فضلاً عن ذلك، فإنّ في خطاب ترامب المتكرر دعوات إلى الفصل العنصري، بل وإلى الإقصاء، حيث يصف الهجرة غير النظامية إلى أميركا بـ"الغزو" وبأنّ هؤلاء المهاجرين الذي ضاقوا ذرعاً ببلادهم مجرمون، ولديهم "جينات قاتلة"، وأنهم "يسمّمون دماء بلدنا". وهدد بطردهم جميعاً، مستنداً إلى ذرائعية يكشف عنها علم النفس تربط بين الهجرة والجريمة، في مغالطة منطقية تبني التعميم على حوادث جزئية منفصلة.
وتستبطن هذه الخطابات نزوعاً نحو "النقاء العرقي" الذي يتخيله ترامب، وتهديداً لحقوق الإنسان، وهو ما لا يلقى صدوداً من جمهور ترامب الذي يجهر بأفكار متشددة في قضايا خلافية تتصل بالإجهاض، وحقوق النساء، وتصورات أخرى محافظة حول الأسرة، تحت مزاعم إعادة تنشيط مفهوم الهوية الأميركية، حيث يعتقد محازبو ترامب أنّ الدعاية الليبرالية (والديمقراطيون جزء أساسي فيها) اختطفت روح أميركا التي يَعد ترامب بتجديدها وانبعاثها.
الخطاب الترامبي في جزئه الذي يمكن قراءته، في ضوء علم الاجتماع الثقافي، بدا متحيزاً ضد المرأة، وهذا كان جلياً من تعليقات ترامب ضد هاريس وشكلها ولونها ونمط أزيائها، منذ لحظة انخراطها في السباق الانتخابي. ولعل أنصار ترامب الذين ينفخون في كيره ويمتدحون هزيمته لهيلاري كلينتون 2016، مسرورون لأنّ رئيسهم الجَسور هزم امرأتين.
هذا الجمهور (وغالبيته من البيض) يتغنى بذكوريته والقيم الرجولية، لأنه يعتقد أنّ عظمة أميركا مرهونة بالقوة والسيطرة والعنف، وهو ما فعله آباؤهم وأجدادهم، من حيث التحمل البدني والقدرة على إلحاق الأذى بالأعداء. وهذا ما يفسر الصورة النمطية لترامب في المتخيل العام لأنصاره، باعتباره شجاعاً قوي الشكيمة لا يكترث بالمشاعر ولا يضعف أو يستسلم، ويستلهم صورة الصياد الذي يختطف لأنه مسيطر، ويمكن قراءة حوادث التحرش بالنساء في ضوء (أو في عتمة) ذلك.
ووفقاً لهذه المعطيات، يتبين أنّ القيم التي وعد بها جيل "التنوير" الغربي، ومن ضمنهم المنظّرون والمفكرون والفلاسفة الأميركيون، في طريقها إلى التبدل، وهو ما يحتاج (من أجل تفسيره) إلى الاستعانة بفلسفة الأخلاق التي ظن بعضهم أنّ روح كانط تهيمن عليها وتلهمها، بينما الواقع الجديد يكشف أنّ أفكار نيتشه تستعيد حيويتها، من حيث التبشير بـ"إرادة القوة" والتطلع إلى الإنسان المتفوق "السوبرمان".
تولي ترامب قيادة أكبر دولة في العالم تطيح بأفكار روسو، حيث جرى ويجري تمزيق "العَقد الاجتماعي" الذي صاغه ودشّنه في بناء عمارة الفكر السياسي والاجتماعي والأخلاقي الحديث، القائم على الحرية والمساواة والقيم الديمقراطية المبنية على الإرادة العامة للشعب، وهي أفكار ألهمت الآباء المؤسسين للولايات المتحدة.
أما من الوجهة الثقافية الفلسفية فتُقرأ رئاسة ترامب وكأنها تجديد لوعد يتغذّى على القوة المطلقة في ظلالها التي تذكّر بنقاء العِرق الآري وتفوق الرجل الأبيض، ما يعني سيادة قيم تنمو باطراد، وتتطلع إلى أن تكون علامة للزمن القادم في أميركا وأوربا بعامة، خصوصاً مع الشراكة "المريبة" بين ترامب وبائع السيارات الكهربائية ومنظّم الرحلات الفضائية، إيلون ماسك الذي يسعى إلى حشد اليمين المتطرف في الغرب تحت شعارات شعبوية مفخخة. فإذا كانت فلسفة نيتشه أنجبت شخصية هتلر، كما يقال، فإنّ فلسفة ميكافيللي أنجبت شخصية موسوليني، فهل تكون فلسفة ترامب وشريكه ثمرة للعناق الحميم بين هاتين الفلسفتين؟.
الزمن القادم في أميركا، وسواها من دول أوروبا مقبل على "فاشية"، وقد يمتد ذلك إلى العالم كله المتجه بقوة إلى اليمين. ومن حقنا الجهر بأنّ الإنسان الخارج من سجن العولمة ذاهب إلى سجن العزلات القومية والميول الانفصالية التي لا تقتصر على الجغرافيا وحسب، بل تتجاوزها إلى قيم المشاعر والتضامن التي يتم هدم معبدها، بلا رأفة، وبلا أدنى إحساس بتأنيب الضمير، وليس أدل على ذلك من تهديد غزة بالجحيم (وكأنهم الآن في جنة!).