ناهض حتر يكتب ل عمون .. "خطوة تنظيم" من أجل فهم الحراك الأردني
11-06-2011 06:56 PM
أرى، بخلاف كثيرين، أن الحراك الشعبي الأردني راكم، حتى الآن، إنجازات لا يمكن تجاهلها في تعديل موازين القوى الاجتماعية والسياسية، داخليا وإقليميا، أي سواء في الصراع مع قوى النيوليبرالية المسيطرة أم مع المحاولات الصهيواميركية لتهميش واستبعاد العامل الأردني من المعادلة الإقليمية. على المستوى الداخلي نلاحظ تراجع النخبة النيوليبرالية الموضوعة في دائرة الإتهام وتراجع نفوذها السياسي، وتصاعد الحملة الشعبية ضد شبكة الفساد وتصدي المزيد من المجموعات الاجتماعية للدفاع عن مصالح مضامة أو حقوق عمالية مسلوبة ( نتذكر هنا عمال الفوسفات ) أو مواجهة مشاريع غير شعبية مثل المفاعل النووي والعدوان على غابات برقش أو المطالبة باسعادة حوض الديسي من الشركات، ونلاحظ أيضا جرأة حكومة الدكتور معروف البخيت في مسعاها لمعالجة التخريب النيوليبرالي للإدارة الأردنية من خلال عملية ديموقراطية لهيكلة القطاع العام لصالح الأغلبية. كذلك، فإن حملة التضامن مع الزميل الصحفي علاء الفزاع، المدهشة في اتساعها، دلت على أن ميزان القوى الداخلي لم يعد يسمح بتكميم الأفواه او ممارسة الاعتقال السياسي.
على المستوى الإقليمي، اتضح أن التكوين الوطني التاريخي للشعب الأردني لم يعد قابلا للفك والتركيب، وأن أية تسوية إقليمية لا يمكنها تجاهل الحضور الأردني الذي يزداد تجذرا معربا عن نفسه، لحسن الحظ، من دون عصبية ـ رغم مساعي التحريض الخبيثة ـ وبروح وطنية ديموقراطية عروبية ومعادية للصهيونية ولمنطق الاستسلام إزاءها. هذا الحضور لم يتظهر دوليا على المستويين الدبلوماسي والإعلامي بصورة تساوي حجمه، لكن المهم هو وجوده على الأرض. وهو وجود سيأخذ مكانه حتما في الحسابات الإقليمية والدولية.
كما أرى، بخلاف كثيرين، أن ذلك الحراك مستمر حتى تحقيق أهدافه، وأن له مضمونا وأفقا مختلفين عن النماذج العربية، كما أن عناصره الفاعلة لا تتكون من تحالف ليبرالي ـ إسلامي كما حدث في مصر مثلا، بينما لا يمكنه التعاطي،اساسا، مع المؤثرات الأميركية والغربية، طالما أن برنامج هذه المؤثرات القائم مضاد لمصالحه المباشرة:
1 ـ إن الحراك الشعبي الأردني لم يتكون تحت تأثير ثورتي تونس ومصر، بل هو سابق لهما. ولعل نقطة بدايته تمثلت في حركة عمال ميناء العقبة، أواخر 2009. وهي الحركة التي عبرت عن مواجهة اجتماعية وطنية حادة مع النهج النيوليبرالي. وكانت ذروة تصعيد عمالي من نوع جديد، بدأته سابقا لجنة عمال المياومة في القطاع العام، والتي اسهمت جديا في إعادة اسلوب الاعتصام إلى الحياة السياسية والاجتماعية الأردنية. لكن العام 2010، كان، بامتياز، عام ولادة ديناميات الحراك الشعبي. ففي ربيع ذلك العام، انطلقت حركة معلمي القطاع العام. وكانت حركة اجتماعية عميقة وشعبية وواسعة النطاق، وأدت إلى تنامي شبكات الاحتجاج السياسي في المحافظات على نحو غير مسبوق. وفي مطلع أيار 2010، أعلن تيار عريض من المتقاعدين العسكريين عن دخوله ميدان العمل السياسي في مانفستو أحدث هزة فكرية وسياسية في البلد، واجتذب عناصر جديدة من صفوف فئات اجتماعية تقليدية إلى ممارسة العمل السياسي الشعبي والمطلبي المستقل. وبذلك، أخذت تتفاعل عناصر ولادة حركة وطنية ديموقراطية مصممة على التصدي للنهج النيوليبرالي الذي سيطر على الاقتصاد والمجتمع والسياسة خلال عقد كامل، وأدى إلى إفقار الريف والجماهير الشعبية، وتهميشها سياسيا.
وخلال الصراعات التي خاضتها قوى الحركة الوطنية الديموقراطية الجديدة عامي 2009 و2010، كانت أحزاب المعارضة التقليدية وفي مقدمتها الحركة الإسلامية، غائبة عن الميدان. لم يحظ النضالات العمالية بدعمها، ونظرت قوى قومية ويسارية واسلامية نظرة الشك نحو حركة المعلمين، ونظرة العداء نحو حركة المتقاعدين العسكريين، أما هذه النضالات والحركات، فقد وجدت في قبضة من المثقفين اليساريين والوطنيين غير المحزبين وفي تجمعات سياسية ناشئة، حليفا فاعلا وجد في انبثاق الحركات الاجتماعية والسياسية الجديدة،مخرجا من حالة الجمود والتهميش. وينبغي القول، هنا، أن هذه الفعاليات كلها، والتي كسبت الاعتراف العام 2011، كانت مستبعدة، ولكنها فرضت نفسها وساجلت دفاعا عن وجودها وآرائها مستخدمة وسائل النشر الألكتروني.
2 ـ مطلع العام 2011، اعتصم ممثلون عن العمال والمعلمين والمتقاعدين وقوى المعارضة الجديدة، أمام مجلس النواب، دفاعا عن مطلب إنشاء نقابة للمعلمين واحتجاجا على قيام المجلس بمنح ثقة استثنائية لحكومة سمير الرفاعي غير المقبولة شعبيا. في ذلك الاعتصام، شوهدت قيادات الحركة الاسلامية التي كانت تحضر لأول مرة اعتصاما تنظمه قوى المعارضة الجديدة، محفوزة بقيام الحكومة بتنظيم انتخابات برلمانية تتجاهل مقاطعة الإسلاميين.
كان يبدو، ظاهريا، أن حكومة الرفاعي قوية بتشكيل ثان وثقة 111 نائبا من اصل 120. ولم يكن شعار إسقاطها واقعيا، لكن ارتفع صوت عمالي من داخل الجمع، يهتف بإسقاط الحكومة. وهو شعار اصبح على كل شفة ولسان خلال الأسبوعين التاليين. في 7 كانون الثاني 2011 نظّم شباب ذيبان مسيرة واعتصاما تحت ذلك الشعار، وتحت تأثير التحرك الشعبي في تونس، نظمت قوى المعارضة الجديدة، وحدها، في 14 كانون الأول، مسيرات في عمان والكرك واربد وذيبان. نجحت التحركات وكذلك نجحت الثورة التونسية في اليوم نفسه. يوم الجمعة التالي، بدأت الحركة الإسلامية ـ وحلفاؤها ـ التدخل الكثيف في الحراك الشعبي وقيادته تحت شعارات المعارضة التقليدية ذات الطابع الديموقراطي الليبرالي، وجرى استبعاد الشعارات الاجتماعية الوطنية التي طبعت الحراك الشعبي عاميّ 2009 و2010. واستمر هذا الاتجاه حتى انتهى في دوار الداخلية يومي 24 و25 آذار 2011، حين بدا ان الحراك الشعبي قد هُزم وأُغرق في شقاق أهلي.
وفي الحقيقة أن الحراك لم يُهزَم، لكنه تراجع لتصحيح المسار والعودة إلى مضمونه الاجتماعي وحاضنته الشعبية في المحافظات المهمشة، حيث أظهر تجديد الحراك، الذي استعاد نشاطه أواسط ايار، انطلاقا من الطفيلة، أن قضايا الحقوق الليبرالية والسجالات حول الاصلاح السياسي الانتخابي والدستوري الخ او قضايا مثل الإطاحة بهذه القيادة الأمنية او تلك او تحجيم هذا الجهاز أو ذاك، لا تحظى بالأولوية لدى جماهير الحراك الشعبي التي تتمحور أولوياتها حول المعركة مع نظمة الفساد وحول مطالب اجتماعية ومحلية وكذلك وطنية ـ كمواجهة العدو الصهيوني والتصدي لمشروع الوطن البديل ـ وكلها تدور مدارا سياسيا من خلال وعي تشابك المهمات.
تعي جماهير الحراك الشعبي، المعركة مع الفساد بوصفها معركة مع نهج اقتصادي ـ اجتماعي ـ سياسي كامل،هو نهج اقتصاد السوق المعولم، ادى إلى تفاقم المديونية العامة والعجز وتدني قدرة الحكومة المركزية على إدارة ملفات التنمية والخدمات العامة. وتنظر جماهير الحراك ـ وهذا مهم جدا ـ إلى الثروات التي راكمتها النخبة، سواء بالفساد الجنائي أم بالخصخصة الخ، بوصفها ثروات مسلوبة منها بالذات، ما يجعلها تدير غضبها على شبكات الفساد مدار الصراع المباشر مع رموز تلك الشبكات، وما يحفزها إلى تصعيد سياسي غير مسبوق لكنه قائم على تعبئة اجتماعية. وهذا الوعي الشعبي يختلف عن وعي المعارضة التقليدية والوعي البرجوازي الحقوقي الذي يميّز بين اثراء مشروع وآخر غير مشروع، ويدور صراعه مع الفساد مدارا قانونيا بحتا، ويمنح الأولوية لقوانين الاجتماعات والانتخابات والأحزاب. ونلاحظ أن هنالك أرضية مشتركة بين المعارضة التقليدية والنظمة المسيطرة والبرنامج الدولي على أولوية الاصلاح السياسي، وعدم التعرض للنهج الاقتصادي الاجتماعي، هذا النهج الذي تريد جماهير المحافظات اسقاطه كأولوية.
3 ـ إن الذين راهنوا على نسخة أردنية من هذه الثورة العربية أو تلك، باءوا بالفشل. فللحالة الأردنية أصالتها النابعة من التداخل بين الفئات الاجتماعية المؤهلة لإحداث التغيير وبين أجهزة الدولة. وليس من دون دلالة أن قوى المعارضة الجديدة الأكثر تأثيرا هي، جميعا، من قوى القطاع العام، عمالا ومعلمين ومتقاعدين وناشطين المطعمين بعناصر معدودة من العناصر اليسارية والقومية المستقلة. لا أمل للفئات النيوليبرالية والكمبرادورية المسيطرة باستخدام عنف الدولة مع قوى اعتراض وتغيير نابعة من أجهزة الدولة نفسها أو تؤثر عليها في العمق السياسي والثقافي. وتبدو لي المعركة محسومة طالما بقي الضغط الشعبي مستمرا.
إذا وضعنا الكليشيهات جانبا، وفكرنا الحالة الأردنية بمقاربة إبداعية، سوف نجد أن الثورة الأردنية تبلور نفسها ضمن خصوصياتها الوطنية. إنها ثورة ضد النيوليبرالية وفسادها ونهجها المتجسد عيانا في الإثراء للإقلية والإفقار والتهميش للأغلبية. ويرى الوعي الشعبي الأردني أن هذه الثورة يمكن أن تنجح داخل الدولة عن طريق التصحيح الاجتماعي الجذري لبرامجها ومسارها. ويستند هذا الوعي ـ الذي يحسبه المثقف الليبرالي متناقضا وناقصا وربما غريبا ـ إلى ركائز متشابكة تأخذ بالإعتبار جملة عوامل منها وضع الأردن الجغرافي السياسي الحساس، وما يجابهه البلد من أخطار إقليمية، والضرورة المحلية والدولية القائمة للملكية، وامكانية إحداث الثورة الاجتماعية داخلها. بل أن الأولوية الاجتماعية الوطنية التي تهيمن الحراك الشعبي، تعكس، بحد ذاتها، خيارا سياسيا قائما على الحذر من إصلاح سياسي قد يلامس مناطق خطرة بالنسبة للدولة التي تراها عناصر المعارضة الجديدة، دولتها بالذات.
على هذا المهاد بالذات، يستحضر الأردنيون، الرمزية الكثيفة للشهيد وصفي التل. فتجربة التل هي تجربة النجاح في محاربة الفساد والهدر وتشغيل آليات التنمية و إحداث التغيير الاجتماعي لصالح الأغلبية الشعبية من خلال الدولة القائمة المتماهية مع الذات الوطنية.
من الصعب على الليبرالي ـ سواء أكان ماركسيا أم قوميا أم إسلاميا ـ أن يفهم هذه المعادلة، لكنها تظل تشكل قانون التغيير الممكن في الأردن في ظروفه الخاصة المعقدة.