أقلب الصفحة .. ولكن كيف نقلب صفحة فقدك يا محمود أبو عبيد؟
سهم العبادي
12-01-2025 09:39 PM
رحل اليوم صوتٌ كان يشبه دفء الوطن في صباحاته الباردة، صوتٌ كنا نتعلق به كما يتعلق المسافر بوجهته.
رحل محمود أبو عبيد، ليترك خلفه فراغاً أعمق من موجات الأثير، وأثقل من الحزن الذي يخيّم على عائلة الإعلام الأردني والعربي.
عند الثالثة عصراً، كان الراديو يُفتح تلقائياً في بيوت الأردنيين، وكأنها صلاة إعلامية يومية، تُناقش فيها قضايا الوطن والمجتمع والثقافة.
بصوته الرخيم، كان محمود أبو عبيد يأخذنا في جولة بين هموم الناس، بحكمة لا تُشبه إلا الكبار. لا صراخ، لا تلوين للكلمات، فقط رسالة صادقة تصل مباشرة إلى القلوب. وكان في برنامج "مجلة الأثير" يرافقه صوت زوجته الزميلة الإعلامية نبيلة السلاخ، حيث شكّلا معاً ثنائياً مميزاً، قدما من خلاله حوارات ومناقشات غنية كانت تصل إلى المستمعين بمصداقية وعفوية.
في كل مقطع كان يختم قائلاً: "أقلب الصفحة"، وكأنها دعوة إلى الاستمرار، للتجدد، للتفكير. ولكن كيف نقلب صفحة فقدك يا محمود؟ كيف نُغلق هذا الكتاب الذي كان مرآة لنا، وعنواناً للإعلام الأردني الحقيقي؟
في رمضان، كانت البيوت تتهيأ للإفطار، وكان صوت محمود يُشبه التمر الذي يُهدّئ جوع الصائمين. "مع الغروب" لم يكن مجرد برنامج، كان قصص تُشبه حياتنا. كان يُلامس أرواحنا بحكايات تُشعرنا أننا جزء من شيء أكبر، جزء من وطن يحمله صوت محمود كما يحمل البحر الموج.
اليوم، الأثير الأردني أصيب بفقدان لا يعوّض، كما لو أن الجبل الذي كنا نستظل به قد انهار.
محمود أبو عبيد كان يمثل الإعلام الذي نفتقده اليوم، الإعلام الذي يبني ولا يهدم، يُقرب ولا يُفرّق، الإعلام الذي يخدم الوطن بصدق لا بشعارات.
الإعلام اليوم يعيش مذبحة في كل صباح، تُذبح المهنية على مقصلة اللامهنية، وتُسلب قدسية الكلمة لصالح "الغنج والصوت العالي، بل والكعب العالي".
أصبح الصخب معياراً لقياس الإعلام، بينما الحرف الصادق يُقتل معناه وتُطمس رسالته. محمود أبو عبيد كان النموذج النقي لما يجب أن يكون عليه الإعلام، وغيابه كشف حجم الفجوة بين الإعلام الذي كان، والإعلام الذي أصبح.
نحن اليوم لا نبكي فقط على رجل غادرنا، بل نبكي على صوت كان شريكاً في تشكيل وجدان هذا الوطن، محمود لم يكن مجرد مذيع، كان مدرسة، كان قيمة، كان قدوة.
كم من مرة قلنا "أقلب الصفحة" بعد كل حلقة، وكم من مرة أعدنا استخدام هذه العبارة في حياتنا اليومية، حتى أصبحت مثلاً دارجاً بين الناس.
اليوم، طُويت الصفحة الأخيرة من حياة محمود، ولكن صوته سيبقى محفوراً في ذاكرة الأردنيين.
وداعاً أيها الكبير، يا من علمتنا أن الأثير ليس موجات فقط، بل حياة، وأن الصوت ليس مجرد كلمات، بل نبض يحمل الوطن. وداعاً يا من لن نجد مثلك مهما أعدنا فتح صفحات الحياة.
رحمك الله، وأسكنك فسيح جنانه، ونسأل الله أن يرزق الإعلام الأردني من يحمل رسالته بصدق كما حملتها أنت.