رحلة الإنسان والآلة نحو المستقبل، في عالم يزداد اعتماده على التكنولوجيا المتقدمة والذكاء الاصطناعي، تظهر الحاجة الملحة لإعادة التفكير في العلاقة بين "الإنسان والآلة". رغم الإمكانات الهائلة التي تقدمها التكنولوجيا لإحداث تغييرات جذرية في مختلف المجالات، يبقى "الإنسان" العنصر الأكثر قيمة داخل المؤسسات. ومع ذلك، تواجه "الحكومات" تحديات كبيرة في تحقيق التكامل المنشود بين البشر والتكنولوجيا.
من بين هذه التحديات، يبرز ضعف التعاون بين "الإنسان والآلة"، إلى جانب النقص المتزايد في المهارات المتخصصة التي تُعد ضرورية لمواكبة المستقبل الرقمي. الذكاء الاصطناعي، بما في ذلك الذكاء الاصطناعي التوليدي الذي أحدث "ثورة غير مسبوقة" في العالم، أصبح اليوم بمثابة أداة رئيسية لتحسين كفاءة العمليات الحكومية وتسهيل تقديم الخدمات. هذا التطور يشبه مصعدًا سريعًا ينقلنا عبر طوابق متعددة، لكنه قد يؤدي، إذا لم يُدار بحكمة، إلى "فجوة خطيرة بين القدرات البشرية والتكنولوجيا “في هذه الحالة، تتحول التكنولوجيا من "محفز للابتكار والتقدم" إلى "عائق حقيقي" يعوق مسار التطور.
لذلك، فإن التعامل الحذر والمدروس مع التحول الرقمي ليس خيارًا، بل ضرورة ملحة لتجنب هذه الفجوة وضمان تحقيق التقدم المنشود.
تحقيق هذا التعاون لا يتوقف عند إدخال تقنيات جديدة، بل يتطلب إعادة صياغة العقول وإعادة هيكلة العمليات. فعلى سبيل المثال، إحدى المؤسسات الحكومية طبّقت نظام ذكاء اصطناعي لتحديد أولويات العمل. في البداية، شعر الموظفون بالخوف من أن يحل النظام محلهم، ولكن بمجرد خضوعهم لتدريب شامل لفهم آلية عمل النظام وكيفية استخدامه لتحسين الأداء، تغيرت وجهة نظرهم. أصبح النظام أداة تعزز إنتاجيتهم وترتقي بقدراتهم بدلاً من أن يُنظر إليه كبديل عنهم.
هذه التجربة تعكس الحاجة إلى إعادة "هيكلة العقول" قبل العمليات، حيث تتغير طريقة التفكير نحو رؤية الإنسان والآلة ككيانين متكاملين يعملان جنبًا إلى جنب لتحقيق الأهداف.
ومع هذا التوجه، يظهر تحدٍ جديد يلوح في الأفق. المؤسسات الحكومية على وشك مواجهة نقص حاد في الكفاءات المتخصصة بمجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة. هذا النقص لا يعيق فقط تبني الحلول الجديدة، بل يهدد أيضًا بعرقلة قدرة الحكومات على التكيف مع المتغيرات السريعة في بيئة العمل الرقمي. تشير التقديرات إلى أن ملايين الموظفين حول العالم يفتقرون إلى المهارات الرقمية اللازمة لتحقيق النجاح في عصر التحول الرقمي.
أمام هذه التحديات، تحتاج الحكومات إلى رؤية شاملة واستراتيجية متكاملة، حيث يتطلب النجاح في هذا المسار التركيز على ثلاثة محاور رئيسية.
المحور الأول، هو "الاستثمار" في تطوير برامج تعليمية متخصصة لبناء قدرات الموظفين في مجالات الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحديثة. هذه البرامج ليست مجرد مبادرات قصيرة الأمد، بل هي استثمار في بناء قاعدة معرفية مستدامة تُعزز من جاهزية المؤسسات للمستقبل.
المحور الثاني، يتمثل في تعزيز "الشراكات" مع المؤسسات الأكاديمية والقطاع الخاص. هذه الشراكات تتيح الاستفادة من الخبرات المتقدمة والتقنيات الحديثة التي يمتلكها القطاع الخاص، مما يُسهم في تقليل الفجوات المهارية وتسريع عملية التحول الرقمي.
أما المحور الثالث، فهو تعزيز ثقافة "الابتكار" داخل المؤسسات الحكومية. الابتكار يجب أن يصبح جزءًا أساسيًا من هوية المؤسسة، بحيث تُشجع الموظفين على التفكير بطرق جديدة وتبني حلول مبتكرة للتحديات المتغيرة.
إن استشراف المستقبل، الذي عملت عليه لأكثر من عشر سنوات، يُظهر بوضوح أن التعاون بين الإنسان والآلة ليس مجرد خيار، بل ضرورة ملحة لتحقيق التطور المستدام. هذا التعاون يتطلب إعادة هيكلة العقول قبل العمليات، حيث لا يقتصر الهدف على التكامل بين الإنسان والتكنولوجيا فحسب، بل يمتد إلى بناء بيئة عمل متناغمة تعزز كفاءة الأفراد، وتمكنهم من استخدام التكنولوجيا كأداة للإبداع والتميز.
ولكن التحدي الحقيقي لا يكمن في إدخال التكنولوجيا إلى مكان العمل، بل في تحويل الإمكانات التقنية إلى قوة دافعة للابتكار، من خلال هذا النهج، يمكن للحكومات والمؤسسات أن تحول التحديات إلى فرص حقيقية، تُسهم في تحقيق نتائج ملموسة ومستدامة.
وبذلك تستطيع الحكومات تسخير الإمكانات التكنولوجية لتحسين كفاءة الخدمات، وتعزيز تجربة المواطنين، ودعم التنمية الشاملة. وهذا لن يتحقق إلا من خلال تبني استراتيجيات استباقية ومبتكرة، ترتكز على رؤية واضحة لمستقبل العمل الحكومي.
إن تبني التكنولوجيا بشكل استباقي يعني أن الحكومات لن تكتفي بمواكبة التغيرات، بل ستسبقها بخطوات. من خلال استراتيجيات فعالة، يمكنها تحقيق أهدافها بسرعة وفعالية، ما يضمن لها مكانة ريادية دائمة في مسيرة الابتكار والتميز.
الاستشراف ليس مجرد رؤية بعيدة، بل هو خارطة طريق لبناء مستقبل تُحركه التكنولوجيا، ويقوده الإنسان بعقل منفتح و"رشيق" وإبداع لا حدود له.
*صالح سليم الحموري
خبير التدريب والتطوير
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية