حقبة الجولاني .. غربان البين وملوك الغابة
ايهاب الدهيسات
12-01-2025 12:52 AM
أتيحت للسوريين فرصة حاكم يحمل صفات إنسانية، كان ذلك زمن الثورة العربية الكبرى، أضاعوها وتخلوا عن الملك فيصل، ليجدوا أنفسهم في تيه مستمر منذ أكثر من مئة عام.
بعدما تحولت الأحلام إلى رماد، برز اسم الجولاني، الذي كان يطلق عليه لقب "ملك المفخخات", هو عنوانًا لرائحة البارود ودوي الانفجارات وصور الدمار التي حفرت نفسها في الذاكرة الجمعية، هذا الاسم يحمل أكثر من مجرد دلالة، إنه رمز حقبة سوداء لا تكفي المستشفيات الميدانية ولا خبراء المتفجرات لإغلاق جراحها، فهي مأساة نفسية واجتماعية تحتاج إلى جيش من المتخصصين لعلاج آثارها العميقة.
طلب الجولاني "عطوة" مدتها أربع سنوات، رقم يثير الريبة ويرتبط في ذهني بفترة إنتهاء حكم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الرافض لهذه الأيديولوجيات، فترتيبات سوريا النهائية لم تُحسم بعد، وما نراه اليوم ليس سوى مرحلة إعداد نظمتها أجهزة استخبارات عالمية ودول إقليمية استعدادًا لما بعد ترامب.
هذه العصابات افلست من محاولات الاغتيال والتشويه، فأرسلوا التهديدات المبطنة عبر ميشيل حايك، ومع اقتراب الحساب جهلوا علينا بهلوسات ليلى عبد اللطيف، فالمشهد السوري يعيد إلى الأذهان السيناريو الليبي قبل أربع سنوات، حين جاء التدخل العسكري التركي في ذات توقيت انتخابات الرئاسة الأمريكية، مشعلًا أحلام الخلافة عبر دائرة الإرهاب المتسعة.
المشهد هنا يختلف ولكنه لا يخلو من الألغام، وسط أزمة اقتصادية خانقة، تتغير المفاهيم حول الفرص، و"الاجتهاد السياسي" الذي يبرر التقارب مع هيئة تحرير الشام أيضا يثير التساؤل عن العدالة، هل قرارات كهذه تُتخذ بشفافية؟ وهل مؤسسات الرأي العام شريكة فعلية فيها؟
رغم التطبيل الإعلامي الذي يحاول تصوير الجولاني كسياسي، فإن الحقيقة الصادمة تظل أن جماعته تبنت تفجيرات فندق الراديسون ساس في عمان، هذا التحول "الدراماتيكي" من القتال إلى السياسة ليس سوى قناع جديد لوجه مألوف، يقدمه إعلام الفوضى كجزء من سيرك تضليل ممنهج.
الحديث عن الاجتهاد السياسي يقودنا إلى فتح ملف الحريات في الأردن، حيث تغيّر الزمن وتبدّلت الملامح، قبل عقد من الزمان، كان الإعلام قادرًا على تناول الوزراء بخيرهم وشرهم، بل ووضع عناوين صريحة مثل "وزراء التأزيم" لأولئك الذين يسيرون بعكس التيار، لكن اليوم أصبح النقد المباشر شبه غائب، وحتى انتقاد "تخبطات" أمين عام وزارة، وليس وزيرًا أو رئيس وزراء، بات أمرًا محفوفًا بالمخاطر.
نعيش اليوم واقعًا يفرض القبول بالإكراه، حيث انحسرت حرية التعبير تحت وطأة قوانين وتشريعات تُقيّدها بشكل ممنهج في مكانها، وظهرت مجموعات من "شهود الزور" تحت مسمى "خبراء قانونيين"، مهمتهم التصدي لأي محاولة شعبية لتسليط الضوء على القضايا العامة.
إلى جانب ذلك، يسود الخوف من الاعتقال بسبب التعبير عن الرأي، ورغم نفي الحكومة المتكرر لهذه الادعاءات، إلا أن قصص الناس وشهاداتهم تكشف حقيقة مغايرة، هذا الواقع المتأزم يعكس أزمة ثقة، حيث يخشى المثقفون من انتقال نهج الحكم بأسلوب الاستخبارات، كما يحدث في حقبة الخلافة إلى الداخل الأردني، فقد يصبح المواطن عرضةً لتقارير مفخخة بالجهل والتدليس تهدد مستقبله وحريته.
التراجع في الحريات أفسح المجال لفراغ كارثي تسلل منه "غربان البين" إلى قلب القرار، وبينما يشغل التلفاز مساحات العقل العربي بمسلسلات عن خلفاء الدولة العثمانية، يحتل الأرض العربية ملوك المفخخات، وما مشهد ما يشتبه أنه وزير العدل السوري، يُطلق النار على رأس امرأة متهمة بالبغاء! سوى انعكاس سريع لانتقال السلطة من وزير اللاعدل إلى وزير الهبل!
في الأردن، نلاحظ تقاربًا مقلقًا مع جماعات متطرفة، تقارب أشبه بانفجار غاز يصدمك قبل أن تدرك ما حدث، لكن وكما هو الحال دائمًا، انفجارات الغاز لا تدوم، النوافذ تُفتح والهواء النقي يدخل من جديد.
اللعب بالنار، سياسيًا أو أيديولوجيًا، يحرق الأصابع، والمجتمعات التي تسعى للشفافية والعدالة ترفض الاختيار بين ملك البراميل المتفجرة وملك المفخخات، سوريا ليست غابة حتى نختار بين الأسد والضبع، وشعبها يسعى لدولة مدنية تؤمن بالبناء، لأن الهدم لا يحتاج سوى لحظة، لحظة حرق كنيسة أو إعدام لا أخلاقي أو لحظة تشاهد فيها الفنان السوري يتعرض للضرب والإهانة من مجموعة ضباع.
الدولة القوية لا تخشى الرأي، ولعل أولى خطوات الإصلاح تبدأ بإغلاق الحدود أمام التهديدات مع الحفاظ على التبادل التجاري الآمن، تمامًا كما فعلت الشقيقة مصر بقرارها منع دخول السوريين إلا بعد استقرار أوضاعهم.
أما في الداخل، فإن أزمة الأردن الاقتصادية ليست مبررًا لتجاهل أن شعبنا يعاني من ضعف الإنتاجية، وبسبب هذا الضعف اعتاد الناس على رمي متطلباتهم على ابواب الديوان دون تفسير أن المشكلة بعقلية المواطن الذي تعود على ثقافة الاستهلاك بلا انتاج ، وعلينا أن نفهم بأن الأمن هو السلعة الأهم التي نقدمها للعالم، والحفاظ عليه يتطلب إصلاحات حقيقية.
لننظر إلى المشهد بعين التبصر والتمرس، والكلمة الفصل ليست مجرد رأي، بل قرار يحمل في طياته مسؤوليات عميقة، لقد آن الأوان لإطلاق الحريات والتخلص من إرث شخصيات التأزيم وغربان البين، فهؤلاء حولوا مؤسساتنا إلى محميات خاصة تُدار وفق أهوائهم، الوقت قد حان لتحرير هذه المؤسسات من قبضتهم، هذا القرار ليس مجرد خيار، بل ضرورة تُغنينا عن تقديم الغطاء الشرعي لمن لا يشبهنا ويختلف عنا في كل شيء."