النواب والفوسفات: حق ام تعد على الحق؟
د. رلى الفرا الحروب
11-01-2025 01:15 PM
اثار عدد من النواب اثناء مناقشات الموازنة زوبعة تحت القبة مطالبين بكف يد مجلس ادارة شركة مناجم الفوسفات والادارة التنفيذية وتعيين لجنة مؤقتة لادارة الشركة تحقق في ما اعتبروه مخالفات قانونية و شبهات ادارية ومالية، بما فيها اختلال توزيع المقاعد في تشكيلة مجلس الادارة وحرمان ممثلي الحكومة والضمان من التصويت للرئيس وصرف مكافآت طائلة له ولآخرين وصفها احد النواب بأنها شراء للذمم، وفوات للمنفعة على خزينة الدولة بسبب ما أسماه النواب "محاباة الشركاء الهنود في الأسعار".
وانتهت الجلسات بتوقيع 45 نائبا مذكرة تطالب بتشكيل لجنة تحقق نيابية مؤقتة تكون مهمتها التحقق من حسن إدارة الشركة والعدالة في توزيع المكافآت والرواتب، وعدم وجود ممارسات تنتقص من حصة خزينة الدولة من إيرادات الشركة سواء من الأرباح او من الضرائب والرسوم، لا سيما وان وزارة المالية تمتلك عبر شركة ادارة الاستثمارات الحكومية حصة 25.7 % من أسهم الشركة، ويمتلك الضمان الاجتماعي حصة تعادل 16.5% ، بمعنى ان حصة الأموال العامة في الشركة تعادل 42.2 %، مقابل باقي الحصص، إذ يمتلك القطاع الخاص الاردني حصة تقارب الـ 8% ، والشركاء الهنود ( 37% ) والصندوق الاستثماري الكويتي ( 9.3%)، والباقي استثمارات عربية.
المذكرة طرحها رئيس المجلس للتصويت سندا لنص المواد 8 و157 و158 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تمنحه صلاحية عرض اي امر على جدول اعمال الجلسة أو إحالته الى لجنة مختصة، وصوتت على المذكرة وأجازتها الاكثرية النيابية تحت القبة سندا لأحكام المادة 60 من النظام الداخلي لمجلس النواب التي تمنح المجلس الحق في تشكيل لجان مؤقتة يرى ان الحاجة ماسة لتشكيلها، ويحدد هو وظائفها ومهامها وعدد اعضائها، وتنتهي مدة اي منها بانتهاء المهمة الموكولة اليها.
أمام هذا المشهد الوطني المحترم الذي قدمه نواب الأمة وأداره باقتدار رئيس مجلس النواب، فوجئنا باجتهادات هنا وهناك تدعي بأن تشكيل لجنة التحقق ليس من حق مجلس النواب وأن هذا الإجراء غير دستوري، محتجين بأن الدستور لم ينص على هذا الإجراء، وأن الشركات المساهمة العامة هي من اشخاص القانون الخاص وليس العام، ولا يجوز لمجلس الأمة أن يتدخل في أعمالها!
وفات أولئك المجتهدين ان الدستور الأردني، وفيما يخص الدور الرقابي لمجلس الأمة، قد وضع بناء محكما متدرجا ومتسلسلا عبر المواد (24، 51، 53، 54، 55، 56، 57، 83، 86، 87، 96 ، 119)، ثم ترك لكل من مجلسي النواب والاعيان الذين يشكلان في مجموعهما مجلس الأمة، الحق في وضع ما يشاءان من القواعد المكملة لتنظيم دورهما التشريعي والرقابي عبر النظام الداخلي لكل منهما وبحيث يتولى هذا النظام الداخلي اكمال الصورة وتفاصيلها، فالدستور يضع قواعد عامة مطلقة يأتي القانون ليفصلها ويضيف اليها إن لزم بما ينسجم مع الدستور نصا وروحا، ويحفظ الحقوق والحريات العامة والخاصة، وهو ما عبرت عنه المادة 83 من الدستور بوضوح "يضع كل من المجلسين أنظمة داخلية لضبط وتنظيم اجراءاته وتعرض على الملك للتصديق عليها".
وهذا النظام الداخلي لكل من المجلسين هو نظام دستوري لأنه يصدر استنادا الى الدستور ويصدق عليه الملك، وهو يحمل مرتبة القانون من حيث القوة والالزام، ويأتي ليفصل الدور التشريعي والرقابي لمجلس الامة مستندا الى المبدأ الدستوري الوارد في المادة 24 " الأمة مصدر السلطات"، ومجلس الأمة وبحسب المادة 25 يمثل السلطة التشريعية لهذه الأمة، كما يملك حق الرقابة على كل أعمال السلطة التنفيذية استنادا الى نصوص عدة في الدستور أهمها المادة 51 " رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون امام مجلس النواب مسؤولية مشتركة عن السياسة العامة للدولة كما ان كل وزير مسؤول امام مجلس النواب عن اعمال وزارته"، وحين نتحدث عن اعمال السلطة التنفيذية ، فإننا نعني بها كل ما تديره هذه السلطة من وزارات وهيئات ومؤسسات وشركات وكل ما تتخذه من قرارات وتصدره من أنظمة وتعليمات وتعميمات.
كما فات أولئك المجتهدين ان مجلس النواب هو سيد نفسه، ومن حقه مناقشة أي أمر يصوت عليه أعضاؤه طالما أنه يقع في باب الرقابة على أعمال السلطة التنفيذية أو في باب الشؤون العامة وحسن إدارة المال العام، وما لم يرد نص خاص يقيد سلطته الرقابية تلك التي منحه اياها الدستور، وهذه النصوص الخاصة التي تقيد سلطة النائب في مناقشة بعض الشؤون وردت في النظام الداخلي لمجلس النواب، بمعنى ان المجلس ارتأى أن يحد من بعض سلطاته بنفسه، والنظام الداخلي كما هو معلوم يضعه النواب بأنفسهم وهم قادرون على تعديله اضافة ونقصانا في الوقت الذي يشاؤون فيه ذلك.
أما الاحتجاج بأن الدستور لم ينص في مواده المتعلقة بالدور الرقابي لمجلس الأمة الا على الأسئلة والاستجوابات في المادة 96، فهذا فهم قاصر يلغي مفاعيل النظام الداخلي لمجلسي النواب والأعيان، ويلغي معظم اعمال مجالس النواب السابقة التي استمرت منذ عام 1946 والتي تضمنت انشاء لجان تحقق وتحقيق في قضايا عدة من بينها شركات ملكيتها مشتركة بين الحكومة والقطاع الخاص، بل ومن بينها الفوسفات ذاتها، عدا عن ميناء العقبة وشركة المطارات الأردنية وشركة الاتصالات والبوتاس والبرومين والاسمنت واسمنت الابيض وغيرها، كما يلغي صحة توقيع المذكرات النيابية والاقتراحات برغبة وجلسات المناقشة العامة وغير ذلك من اعمال يمارسها المجلس مستندا الى قوة نظامه الداخلي الذي يحمل قوة القانون.
بل ويلغي قواعد القانون التي يعرفها كل دارسي القانون، من حيث أن الاعمال التي قامت بها مجالس الأمة منذ عام 1946 ترسي عرفا برلمانيا يحمل قوة القانون، ويملء الفراغ التشريعي إن وجد، بل إن العرف البرلماني لا يؤسس فقط لسلطة القانون في غياب النصوص الآمرة، بل وإنه يمتلك حتى قوة تعديلها وإلغائها، وليس سرا ان الفوسفات كنز الاردن وثروته الاولى، والشعب الاردني ونوابه يطالبون منذ عشرين عاما بعودة هذه الشركة الى ملكية خزينة الدولة بالكامل، وهو الامر الذي ان تحقق فإنه كفيل بزيادة إيرادات الخزينة بواقع مئات الملايين من الدنانير في حال أحسنت إدارة أعمال الشركة، وجحا أولى بلحم ثوره في موازنة عامة تقوم على الاقتراض والمساعدات الاجنبية بعد ان تخلت الحكومات المتعاقبة عن موارد الدولة وباعتها بأثمان غير عادلة وفي غياب الشفافية في كثير من الحالات، وهو الأمر الذي اعترفت به اللجنة الملكية للتخاصية برئاسة دولة الدكتور عمر الرزاز.
أما منع النواب من التحقق من اعمال شركة مساهمة عامة باعتبارها من اشخاص القانون الخاص وليس العام ، فإن هذا المنع لم يرد في أي من مواد الدستور ولا أي من مواد النظام الداخلي لمجلس النواب، لا سيما وأن المادة 114 من النظام الداخلي للمجلس قد نصت حصريا على القضايا التي لا يجوز للعضو الكلام فيها، وليس من بينها قضايا الشركات، التي لم يرد اي قيد يحد من قدرة العضو او المجلس على البحث في وجود شبهات فساد فيها او سوء ادارة، مع التأكيد على أن شركة مناجم الفوسفات ملكيتها مشتركة بين الحكومة والضمان الاجتماعي والقطاع الخاص المحلي والأجنبي، واينما يوجد دينار من المال العام تتوجب الرقابة عليه، وهو ما يستوجب تعديل تعميم رئيس الوزراء وقانون ديوان المحاسبة لينسجما تماما مع الدستور وبحيث يبسط الديوان رقابته على جميع الشركات التي تساهم فيها الحكومة بغض النظر عن نسبة المساهمة، وفي ضوء غياب رقابة الديوان في الوضع الراهن، فإن رقابة مجلس النواب تصبح واجبة كي لا يترك هذا المال العام دون رقيب او حسيب.
وللعلم، فإن واحدة من اهم الاسباب التي دفعت بعض الحكومات الى تحويل المؤسسات العامة الى شركات، ومنها المؤسسة العامة للاستثمار هو هذه الرغبة في الافلات من الرقابة النيابية ورقابة ديوان المحاسبة، وهو الامر الذي تسبب في هدر المال العام وانتشار الفساد الاداري والمالي في بعض تلك الشركات، لا سيما تلك الرواتب والمكافآت الخيالية المنفلتة من الضوابط، ومن يحاول منع مجلس النواب من اداء دوره ازاء المال العام انما يحطب في سلة تلك النوايا التي اوصلتنا الى هذه المديونية الهائلة وعجز الموازنات المخيف.
وعودة الى السؤال حول حق المجلس في مناقشة اعمال شركة مناجم الفوسفات ، فإن الفصول الثاني عشر والثالث عشر والرابع عشر من النظام الداخلي أعطت النائب الحق في سؤال الحكومة عن أي شأن من الشؤون العامة دون قيد او شرط، وبغض النظر عما اذا كان هذا الشأن العام يرتبط بأشخاص طبيعيين او اعتباريين يخضعون للقانون العام أو الخاص، وجاء الاستثناء الوحيد يتعلق بمناقشة قضايا منظورة في المحاكم بما يخشى ان يؤثر على سير اعمال القضاء فيها.
علاوة على ذلك فإن المواد 157 و 158 من النظام الداخلي لمجلس النواب تبيح ل 15% من أعضاء المجلس التقدم للرئيس بمذكرة خطية تتضمن استيضاحا عن قضايا عامة أو أمور تتعلق بالشؤون العامة، وتمنح الرئيس صلاحية إدراجها على جدول الأعمال أو إحالتها الى لجنة مختصة أو الى الحكومة بحسب مقتضى الحال.
بل إن المواد 152-156 من النظام الداخلي تبيح للمواطن العادي الحق في تقديم عريضة فيما له صلة بالشؤون العامة أو شكوى فيما ينوبه من أمو شخصية، ويجيز النظام إحالتها الى لجان مختصة لدراستها والتحقيق فيها، فإذا كان هذا الحق للمواطن العادي، فما بالك بـ 45 نائبا وقعوا عريضة او مذكرة تطالب بتشكيل لجنة للتحقق من شبهات فساد في شركة تساهم فيها الحكومة والمؤسسة العامة للضمان الاجتماعي بنسبة تتجاوز الـ 42%، بمعنى ان النواب يطالبون بحقهم في الرقابة على الاموال العامة؟!
وبالعودة الى المادة 51 من الدستور، والتي تنص على مسؤولية كل وزير عن اعمال وزارته امام مجلس النواب والمسؤولية المشتركة لمجلس الوزراء عن السياسة العامة للدولة، فإن وزارة المالية تمتلك كامل اسهم شركة ادارة الاستثمارات الحكومية التي تمتلك بدورها حصة وازنة من شركة مناجم الفوسفات، وايرادات الشركة تدخل قانون الموازنة العامة للدولة عبر بند اسمه ايرادات دخل الملكية/ المساهمات الحكومية، وقيمة هذا البند تذبذبت صعودا وهبوطا بشكل حاد خلال السنوات الخمس الأخيرة، ومن مسؤولية مجلس الأمة استقصاء الأسباب وراء هذا التذبذب وهل يتحمل مسؤوليته ممثلو الحكومة في مجالس ادارة الشركات التي تساهم فيها وما الذي يمكن فعله لتجويد اداء مجالس الادارات في تلك الشركات ومنع تضارب المصالح وتعزيز النزاهة والشفافية والحيلولة دون شراء الذمم!!!
وعملا بأحكام المادة 51، فإن الوزير المعني في هذه الحالة هو وزير المالية الذي يساءل عن اعمال وزارته امام المجلس بما فيها كيفية ادارة وزارته للمساهمات الحكومية في الشركات المختلفة ومنها الفوسفات، لا سيما وأنه يرأس مجلس إدارة شركة إدارة الاستثمارات الحكومية، ومن ثم فان التذرع بان شركة مناجم الفوسفات هي قطاع خاص ولا سلطة لمجلس النواب على القطاع الخاص الذي يحكمه قانون الشركات ويراقب عليه مراقب الشركات والقضاء وهيئة النزاهة ومكافحة الفساد هو فهم ناقص لأن الشركة فيها حصة تتجاوز 42% للحكومة وللضمان ( أي مال عام)، ومن حق مجلس النواب ان يراقب على حسن إدارة المال العام وان يحاسب من يتجاوز عليه.
ومما يدلل على صحة هذا الفهم، قيام حكومة الدكتور جعفر حسان فورا وبعد احتجاجات النواب تحت القبة بالايعاز لمجلس ادارة شركة ادارة الاستثمارات الحكومية بتغيير ممثليها في مجلس ادارة شركة مناجم الفوسفات واستبدالهما بعضوين جديدين هما فارس قطارنة وفراس قراعين.
هذا من جهة، ومن جهة ثانية، فإن دائرة مراقبة الشركات تتبع وزير الصناعة والتجارة وهو بدوره مسؤول امام مجلس الأمة عن أداء وزارته، وبما أن النواب في مداخلاتهم اشاروا الى تجاوزات، فان تقصير مراقب الشركات (إن وجد) في القيام بواجبه، يساءل عنه وزير الصناعة والتجارة أمام المجلس، وهذا يعني أن وزيرين على الاقل مسؤولان عن تقديم اجابات امام المجلس عن سلامة أداء مجلس ادارة شركة مناجم الفوسفات، يضاف اليهما وزير العمل رئيس مجلس ادارة الضمان الاجتماعي الذي يمتلك ممثلا في مجلس ادارة الفوسفات الى جوار ممثلي شركة ادارة الاستثمارات الحكومية المملوكة بالكامل لوزارة المالية.
علاوة على ذلك، فإنه وفي ظل وجود ممثلين للحكومة في مجلس ادارة الفوسفات يسميهما مجلس إدارة شركة إدارة الاستثمارات الحكومية الذي يعينه مجلس الوزراء، صرح بعض السادة النواب أنهم لم يؤدوا دورهم على أكمل وجه بما يحفظ لخزينة الدولة حصتها العادلة من أرباح الشركة، وفي ضوء امتناع الحكومة عن شراء حصة كاميل هولدنج حين عرضتها للبيع بثمن بخس واشتراها الهنود بدلا من ان تغتنم الحكومة الفرصة لاعادة سيطرتها على اسهم الشركة وارباحها، فإن مجلس الوزراء كله يضحي مسؤولا مسؤولية مشتركة، وهو ما يؤهل لجنة التحقق النيابية من استدعاء المجلس كاملا ان ارادت او وزراء محددين فيه بحسب اجتهادها في وضع الاسئلة الرئيسة التي تتقصاها في مهام اللجنة.
بعد كل ما تقدم، فإننا نرى أن اتهام المجلس بعدم دستورية قراره بتشكيل لجنة التحقق إنما هو انتقاص من سلطة الشعب الأردني، وإهانة للمجلس ورئيسه وادعاء باطل بأنهم لا يعرفون حدود دورهم، مع أن الرئيس الصفدي هو رئيس لعدة دورات، والنواب الذين وقعوا المذكرة والذين صوتوا عليها هم نواب حزبيون في معظمهم ويفهمون دورهم الدستوري جيدا ويحفظون النظام الداخلي للمجلس عن ظهر قلب ويعرفون حقوقهم حق المعرفة!
وعليه، وعملا بأحكام الفقرة (و) من المادة الثامنة من النظام الداخلي لمجلس النواب، والتي تلزم الرئيس باتخاذ الاجراءات اللازمة لحفظ كرامة المجلس وكرامة أعضائه، فإنني أتمنى على الرئيس أن يفعل نص هذه الفقرة وان يرد على من اتهموا المجلس بمخالفة الدستور، من باب ان إعمال النص خير من اهماله، لا سيما وأن ما قام به المجلس ورئيسه قد أعادا الى المجلس كثيرا من الثقة المفقودة مع القاعدة الشعبية، وبالأخص لدى أبناء الجنوب الذين يشعرون أنهم كالعيس في البيداء يقتلها الظما، والماء فوق ظهورها محمول.