بين البيئة والغريب .. صراع الهوية الصامت ..
محمود الدباس - ابو الليث
09-01-2025 06:54 PM
العادات والتقاليد.. ليست مجرد سلوكيات سطحية.. بل هي نتاج تفاعل اجتماعي طويل.. اختزل خبرات الأجيال وصقل القيم والأفكار لتتماشى مع احتياجات البيئة والمجتمع.. وعندما يأتي فرد ليقتبس عادة أو فكرة شاذة عن محيطه.. ويندفع لتطبيقها.. أو فرضها على بيئته وكأنها الأصل.. فإنه لا يُحدث فقط شرخاً في نسيج المجتمع.. بل يضع نفسه أيضاً في مواجهة مع محيطه وأصوله..
ومن الأمثلة التي تجسد هذا التباين في القيم والمفاهيم بين البيئات المختلفة.. مسألة التعامل مع العلاقات التي تنقطع بسبب أخطاء جسيمة.. أو ظروف استثنائية.. كالتخلي عن أحد افرد العائلة بسبب إدمان المخدرات.. او ارتكاب جريمة.. او الخيانة الزوجية.. ففي بعض البيئات.. يتم التخلي عنه.. والتبرؤ منه.. بينما في بيئات أخرى.. يُنظر إلى ذلك كأمر طبيعي ومقبول.. ويبقى ذلك الشخص ضمن إطار العائلة..
وفي سياق آخر.. قد نجد تصرفات مثل إعادة بناء العلاقات بطرق تختلف جذرياً.. كالزواج من شريكة شخص قريب.. أو صديق بعد انفصالهما.. يُعتبر أمراً عادياً في بيئات معينة.. بينما في بيئات أخرى يُنظر إلى هذا التصرف كخرق للعرف والتقاليد.. بل وحتى كأمر مستهجن يتعارض مع القيم الاجتماعية السائدة.. ويتم وضع ألف تأويل لذلك..
ومن الأمثلة البسيطة التي تعكس هذا التباين في العادات والقيم.. ليس فقط بين الشعوب المختلفة.. بل حتى بين أفراد من نفس البلد.. أو المدينة.. مسألة الأكل والشرب في الطرقات.. أو ارتداء الشباب لـ"الشورت" أثناء المشي في الشوارع.. وبين الأحياء السكنية.. ففي مناطق معينة.. يُعد هذا التصرف أمراً طبيعياً.. ومألوفاً.. ولا يُثير الانتباه.. بينما في مناطق أخرى.. يُعتبر تصرفاً غير لائق.. ومعيباً اجتماعياً.. مما يبرز البون بين البيئات المختلفة.. حتى ضمن الحدود الجغرافية الواحدة.. ويؤكد على أن ما هو عادي في مكان.. قد يُقابل بالرفض والاستهجان في مكان آخر..
هذا التباين.. يعكس الفجوة التي قد تحدث.. عندما يحاول أحدهم تطبيق ما هو مقبول في بيئة معينة.. على بيئة تختلف في مفهومها للعائلة.. والمجتمع والتسامح.. فتكون النتيجة رفضاً واستغراباً قد يتحول إلى خلاف.. خاصة عندما يحاول هذا الشخص فرض هذا التصرف على محيطه وكأنه هو الأصل.. متجاهلاً أن القيم تختلف بتغير السياق والبيئة.. وأن ما يبدو منطقياً في مكان ما قد يكون غريباً ومرفوضاً في مكان آخر..
إن مثل هؤلاء الأفراد غالباً ما يُسقطون فهمهم للحرية الفردية بشكل خاطئ.. إذ يرون في اقتباسهم للشاذ من المفاهيم.. نوعاً من التحرر أو التقدم.. متجاهلين أن الانفتاح على ثقافات مختلفة.. لا يعني انتزاع عاداتها.. دون فهم سياقها وأبعادها.. بل يعني فهمها وتحليلها.. ثم تبني ما يتماشى مع قيمهم وأصولهم..
وفي علم النفس الاجتماعي.. نجد أن ما يُعرف بـ"التنافر المعرفي" يفسر هذه الظاهرة.. حيث يسعى الفرد.. للتوفيق بين قيمه الداخلية.. وتبنيه لأفكار.. أو تصرفات تتعارض مع بيئته ومحيطه.. مما يجعله يدافع عنها بشراسة.. ويبررها بكل الوسائل.. ليشعر بالانسجام الداخلي.. ولكن هذا الدفاع المستميت لا يُخفي الحقيقة.. بل يكشف هشاشة قناع التبرير الذي يرتديه..
وعليه.. على هؤلاء الأفراد أن يدركوا أن محاولتهم فرض ما هو شاذ على مجتمعهم.. لن تُثمر إلا مزيداً من العزلة والرفض.. وأن الأصالة ليست في استنساخ ما هو غريب.. بل في الحفاظ على قيم البيئة.. والتعامل معها بفهم واحترام.. فالإنسان الذي يفقد صلته بجذوره.. يفقد هويته.. ومن لا يحترم خصوصية مجتمعه.. لن يجد احتراماً.. أو قبولاً حقيقياً من أي مجتمع آخر..
إن الأصالة الحقيقية.. ليست في اتباع التيار.. بل في معرفة قيمة الجذور.. وفي فهم.. أن الانفتاح على الثقافات الأخرى.. هو فرصة للنمو.. لا ذريعة للتشوه..