facebook
twitter
Youtube
Ammon on Apple Store
Ammon on Play Store
مواعيد الطيران
مواعيد الصلاة
rss
  • اخر التحديثات
  • الأكثر مشاهدة




الخضرا تكتب: الأخلاق أولًا


أ.د وفاء عوني الخضراء
09-01-2025 01:03 PM

في عالم يشهد تحولات متسارعة، تتسارع فيه وتيرة التكنولوجيا والمعلومات والتواصل، تصبح الأخلاق أكثر من مجرد مبادئ نظرية؛ إنها حجر الأساس الذي يُبنى عليه مستقبل الإنسانية وإزدهارها. إلا أن ما نشهده اليوم في بعض بقاع العالم هو تهميش متزايد لهذه المبادئ، لصالح روايات تسودها المصالح المتبادلة، والجشع وراء الربح، واستعراض القوة وصراعها. في هذه البيئة، حيث تُطغى المصالح الشخصية على المصلحة العامة، يتحول الناس إلى مجرد أدوات في لعبة أكبر لا تراعي القيم الإنسانية.

هذا الإغفال الممنهج للأخلاق لا يُسهم فقط في استغلال الأفراد بل يؤدي إلى تقويض الفرص الحقيقية للنهوض البشري. تتحول المجتمعات إلى مساحات تتآكل فيها القيم، وتتسلل فيها الانتهازية، حتى تصبح الأسس التي بُنيت عليها الإنسانية في خطر حقيقي.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، يُسهم غياب الأخلاق في وسائل الإعلام في انحراف خطير عن رسالتها الأساسية. فبدلاً من التزامها بالحقائق وتعزيز حق المجتمع في الحصول على المعلومات الصحيحة، تصبح الأولوية لتحقيق الربح على حساب المبادئ والواجبات. في هذا السياق، تتحول وسائل الإعلام إلى أداة لتسليع الأفراد، وتُستخدم المعلومات كسلاح لتوجيه الرأي العام لخدمة مصالح ضيقة، بينما تُضخِّم المآسي الإنسانية لتحقيق مكاسب شخصية. هذا النهج اللامسؤول يجعل من وسائل الإعلام منصة للتفرقة والتحريض بدلاً من أن تكون قوة للتنوير والإيجابية، ويُفاقم الانقسامات داخل المجتمعات بدلاً من أن يعمل على توحيدها وتوجيهها نحو التقدم والازدهار.

غياب الأخلاق في بناء مفهوم المواطنة يؤدي إلى تآكل القيم التي تحافظ على الانسجام الاجتماعي. ففي هذا السياق، يتحول إلقاء القمامة في الأماكن العامة إلى سلوك عادي لا يُعتبر انتهاكًا للفضاء المشترك، في حين يُفقد الوعي بأهمية الحفاظ على البيئة. الغش، الذي كان يُعتبر يومًا تصرفًا غير أخلاقيًا ومخالفًا لمعايير الأداء الإنساني، يتحول إلى وسيلة ضرورية لإرضاء نزعة نرجسية تطغى على القيم الحقيقية. التنمر والاعتداء في الشوارع أثناء القيادة يُعتبران مجرد سباق لإثبات ملكية الفرد للطرقات، متجاهلين أن هذه المساحات ملك للجميع وأن احترام الأمن والسلامة العامة أولوية. وعلى منصات التواصل الاجتماعي، يصبح التنمر على الآخرين حقًا مشروعًا، حيث يُبرر التقليل من شأن الآخرين وشيطنتهم لمصلحة الفرد وأتباعه فقط، مما يعزز ثقافة الإقصاء والتفرقة ويعمق الجروح المجتمعية.

السياسة أيضًا تعاني عندما تغيب الأخلاق. عالم تُفصل فيه السياسة عن الأخلاق هو عالم تُتخذ فيه قرارات بدون بوصلة رشيدة، تُرتكب فيه الإبادة الجماعية، وتُسرق فيه الأراضي وحياة البشر تحت مسميات "البقاء للأقوى" أو "المنفعة الفضلى"، بدلاً من أن تكون سعيًا نبيلاً لضمان العدالة والإنصاف والسلام. يجب أن تكون الأخلاق البوصلة التي توجه السياسة لصياغة سياسات تُعلي من شأن الإنسانية وتسمو بأدائها.

القطاع الخاص، كقوة محركة للتنمية الاقتصادية، لا يمكنه الهروب من الحاجة إلى (أولنة) الأخلاقيات لإحداث الأثر المرجو. عندما تعمل الشركات في فراغ للمرجعية الأخلاقية، فإنها تُعلي الربح على حساب الاستدامة، وإحتكار تدوير المال، وتستغل العمال، وتتجاهل أنسنة إستحقاقات مجتمعاتها. هذه الممارسات تؤدي إلى تفاقم التدهور البيئي، وزيادة الفجوات الاجتماعية من عدالة الفرص والوصول إلى الموارد والخدمات، وتقويض الثقة في المؤسسات. على العكس، فإن الشركات التي تسترشد بالأخلاقيات تُسهم في ابتكارات تخدم البشرية، وتبني بيئات عمل عادلة، وتساهم بشكل ملموس في التقدم الاجتماعي ونهضته.

في غياب الأخلاق، تتحول مواقع التعيين والتوظيف في القطاعات إلى ساحات للمحسوبية والولاءات الشخصية، حيث يُعتبر المنصب ملكية خاصة تُمنح وفقًا للعلاقات الشخصية بدلاً من الكفاءة والجدارة. وبدلاً من أن تُمنح الفرص لمن يمتلك الخبرات في الميدان والمهارات المناسبة، تُخصص الوظائف للأصدقاء والأقارب، مما يُفرغ مبدأ تكافؤ الفرص من محتواه ويُضعف الأداء المؤسسي ويؤثر سلبًا على المجتمع ككل. المنظومة الأخلاقية هي الضمان لتحقيق العدل والإنصاف، حيث تتيح للجميع الوصول المتساوي إلى الخدمات والموارد والفرص، مما يعزز استدامة التقدم والازدهار.

كما أن الحي، باعتباره الوحدة الاجتماعية الأساسية، يعتمد بشكل كبير على الأخلاق لتحقيق التناغم والنمو المستدام. عندما يتصرف الجيران دون مراعاة للمبادئ الأخلاقية، تتفشى مشاعر عدم الثقة والعزلة والصراعات، مما يؤدي إلى ضعف النسيج الاجتماعي. هذا الفقد للأخلاق يمكن أن يتصاعد ليخلق مشكلات مجتمعية أوسع، حيث تفشل المجتمعات المجزأة في التعاون لتحقيق أهداف مشتركة مثل الأمن والتعليم والخدمات العامة. في غياب هذه القيم، تصبح فرص التعاون والتقدم ضئيلة، مما يعوق تطور المجتمع ككل ويهدد استقراره.

أما التعليم، أحد أهم أعمدة المجتمع، فيجب أن يقوم على الأخلاق. يجب أن تُغرس في أجيال الطلبة قيمة المسؤولية الأخلاقية، ليس خوفًا من العقاب، بل لأن السلوك الأخلاقي يُعزز مجتمعات تقوم على المساواة في جودة التعلم والتقييم والأداء، والثقة، والنجاح المشترك. إذا لم تُدمج الأخلاقيات في النظام التعليمي، فقد يفتقر القادة والمواطنون المستقبليون إلى البوصلة الأخلاقية اللازمة للتصرف بمسؤولية في حياتهم الشخصية والمهنية.

تلعب الأسرة دورًا محوريًا في غرس القيم الأخلاقية. الأمهات والآباء الذين لا يزرعون هذه القيم في أبنائهم يخاطرون بتنشئة أفراد يسعون وراء النجاح بطرق ملتوية، مثل الخداع والاستغلال. في المقابل، الأطفال الذين ينشأون على أسس أخلاقية يفهمون قيمة الجهد والنزاهة، وينقلون هذه المبادئ إلى سوق العمل، حيث يساهمون بفعالية ونزاهة في المجتمع وسوق العمل.

أما الجامعات، كمراكز للمعرفة والابتكار، فيجب أن تُسترشد بالقيم الأخلاقية. فالأخلاق في الجامعات هي الضمانة الأساسية لضمان أن البحث والتعلم يتم بشكل صحيح وفعّال، بحيث تكون الأبحاث ذات مصداقية وتُبنى على أسس علمية حقيقية. كما يجب أن يكون ما يُنتج في الجامعات خاليًا من الممارسات غير الأخلاقية مثل النسخ واللصق، أو الاعتماد على مكاتب البحث التجاري أو المنشورات الزائفة. وفي الوقت نفسه، تُسهم عملية التعلم في بناء الشخصيات وتنمية المهارات الحياتية للطلبة. لكن في غياب الأخلاق، تتحول الجامعات من مراكز للمعرفة والتعليم إلى أماكن تُشرّع غياب النزاهة، حيث تُطبع سلوكيات سلبية مثل الهروب من الالتزام بالفصول الدراسية، والتقاعس عن إنجاز الواجبات والمتطلبات، وابتكار قصص زائفة لتبرير عدم الوفاء بالمتطلبات الجامعية. كما يتحول المناخ الجامعي من بيئة علمية إلى فضاءٍ للممارسات غير الأكاديمية، حيث تصبح الجامعات، بدلاً من أن تكون منارة للعلم، مكانًا لممارسة أدوار لا صلة لها بالعالم الأكاديمي الحقيقي، ويُصبح هذا الفضاء مركزًا للسياسات المفرطة والمصالح الشخصية بدلاً من تعزيز القيم الأكاديمية والإنسانية.

يجب أن يكون الإطار الأخلاقي هو الأساس الذي يربط بين جميع القطاعات ومجالات الدراسة والتدريب. فالأخلاق لا تقتصر على ضمان العدالة والإنصاف فقط، بل تمثل أيضًا نهجًا فعالًا من حيث التكلفة. عندما نعتمد على الأخلاق في اتخاذ القرارات وتنفيذ العمليات، فإن الفوائد طويلة المدى تتفوق بكثير على أي مكاسب سريعة. إذا كنا نطمح إلى إجراء تحليلات فعّالة للتكلفة والفائدة وضمان نمو مستدام، فإن الأخلاق ستكون العنصر الأهم. من خلال دمج الأخلاق في جميع جوانب الحياة الاجتماعية والاقتصادية، يمكننا ضمان الاستخدام الأمثل للموارد، وتوفير الفرص المتساوية، وتمكين الأفراد من تحقيق النجاح والازدهار الحقيقي.

كما أن الاستثمار في الفرد وقيمه ومسؤوليته المجتمعية داخل المجتمع يعني استثمارًا في رفاهية الأمة بأسرها. فعندما نولي اهتمامًا بتنمية مهارات وقدرات الأفراد، فإننا نعمل على ضمان مستقبل أفضل وأكثر استدامة. إن دعم الأفراد في تحقيق إمكانياتهم ينعكس بشكل مباشر على النمو الاقتصادي والاجتماعي، ويخلق أجيالاً قادرة على مواجهة التحديات المستقبلية وبناء خطط مستدامة للغد.

ستزدهر الإنسانية في العالم عندما تتحد، وتفشل عندما تنقسم على نفسها، فتتشرذم الطاقات وتضيع الفرص.





  • لا يوجد تعليقات

تنويه
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط.
ويحتفظ موقع وكالة عمون الاخبارية بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أوخروجا عن الموضوع المطروح ،او ان يتضمن اسماء اية شخصيات او يتناول اثارة للنعرات الطائفية والمذهبية او العنصرية آملين التقيد بمستوى راقي بالتعليقات حيث انها تعبر عن مدى تقدم وثقافة زوار موقع وكالة عمون الاخبارية علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .
الاسم : *
البريد الالكتروني :
اظهار البريد الالكتروني
التعليق : *
بقي لك 500 حرف
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :