الدستور الأردني في ذكراه الثالثة والسبعين
د. ليث كمال نصراوين
08-01-2025 12:16 AM
يصادف اليوم الذكرى الثالثة والسبعين لصدور الدستور الأردني لعام 1952، حيث صدرت الإرادة الملكية السامية في عهد المغفور له الملك طلال بن عبد الله بالمصادقة على قراري مجلسي الأعيان والنواب بالموافقة على تعديل الدستور وإصداره، والذي دخل حيز التنفيذ بعد نشره في الجريدة الرسمية بتاريخ 8/1/1952.
وبالنظر إلى هذه الآلية التي صدر فيها الدستور الأردني الحالي والمتمثلة بالتصويت على قبوله من قبل النواب المنتخبين والأعيان وموافقة الملك عليه، يمكننا القول إنه دستور تعاقدي نشأ عن طريق العقد المبرم بين الحاكم من جهة وممثلي الشعب من جهة أخرى. فهذه الطبيعة التعاقدية للدستور القائم قد جرى تكريسها بشكل واضح وجلي في المادة (129) منه، والتي تنص على أنه يُشترط لإقرار أي تعديل على الدستور أن تجيزه أكثرية الثلثين من أعضاء كل من مجلسي الأعيان والنواب، بحيث لا يعتبر أي تعديل نافذ المفعول ما لم يصدق عليه الملك.
ومن حيث مدى قابلية نصوصه للتعديل، فإن الدستور الأردني يعتبر من الدساتير الجامدة التي تكون قابلة للمراجعة بشروط أكثر شدة وصعوبة من القانون العادي. فالدساتير في فقه القانون الدستوري تقسم إلى دساتير جامدة ودساتير مرنة وذلك تبعا لطبيعة الإجراءات المتبعة في تعديلها بالمقارنة مع القوانين العادية. فالدستور الأردني يُعدل بموافقة ثلثي أعضاء مجلسي الأعيان والنواب ومصادقة الملك المطلقة.
أما تعديل القانون في الأردن، فيشترط لإقراره موافقة أكثرية أصوات الأعضاء الحاضرين في مجلسي الأعيان والنواب وموافقة الملك، وأن مصادقة الملك على تعديل القانون هي توقيفية وليست مطلقة. فالمشرع الدستوري قد قيّد الملك بمدة زمنية معينة للموافقة على مشروع القانون ممثلة بستة أشهر فقط، وفي حال رفضه التصديق على مشروع القانون فإنه يعود إلى مجلس الأمة الذي يحق له الإصرار على مشروع القانون، فيعتبر في هذه الحالة نافذ المفعول وبحكم المصدق.
أما نظام الحكم الذي كرسه الدستور الأردني لعام 1952، فهو النظام النيابي الكامل القائم على أساس وجود مجلس نواب منتخب من الشعب لفترة زمنية معينة وأعضاؤه يمثلون الأمة بكاملها وليس دائرة انتخابية بعينها، وأن المجلس النيابي يمارس صلاحيات فعلية حقيقية، وأن كلاً من رئيس الوزراء والوزراء مسؤولون أمام مجلس النواب.
ومنذ صدوره في عام 1952، خضع الدستور الأردني لسلسلة من التعديلات على نصوصه وأحكامه كان آخرها في عام 2022، حيث قدمت اللجنة الملكية لتحديث المنظومة السياسية مجموعة من المقترحات التي هدفت إلى تطوير آليات العمل النيابي وتمكين المرأة والشباب، ووضع الأرضية الدستورية للانتقال إلى مرحلة الحكومات البرلمانية، وذلك من خلال تكريس فكرة تواجد الأحزاب السياسية في مجالس النواب القادمة.
أما قبل عام 2022، فكانت التعديلات التي جرى إقرارها على الدستور الحالي في جزء منها استجابة لظروف تاريخية مرت بها الدولة الأردنية. فالدستور الأردني قد جرى تعديله في عام 1958 لتتوافق نصوصه مع دستور الاتحاد الهاشمي الذي تم بين الأردن والعراق، قبل أن يُعاد مراجعة النصوص المضافة في العام ذاته بعد انتهاء هذا الاتحاد الذي لم يستمر طويلا.
ومنذ عام 1960، توالت التعديلات الدستورية التي هدفت بشكل أساسي إلى التعاطي مع تبعات الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية وعدم إمكانية إجراء انتخابات تشريعية فيها ضمن المواعيد الدستورية المحددة وذلك خلال فترة الوحدة بين الضفتين. فتم إعطاء الملك الحق الدستوري في تأجيل الانتخاب تأجيلا عاما، وإعادة مجلس النواب المنحل ودعوته للانعقاد إذا استمرت الظروف القاهرة لفترة طويلة.
وبعد صدور القرار التاريخي بفك الارتباط، بدأت التعديلات الدستورية تتجه نحو تجاوز آثار الماضي وتفعيل عناصر النظام النيابي الكامل، وذلك من خلال التخلص من مظاهر هيمنة السلطة التنفيذية على السلطة التشريعية وتعزيز استقلال السلطة القضائية.
أما التعديل الأبرز على الدستور الأردني فكان في عام 2011، حيث استجابت الدولة الأردنية للمطالب الشعبية بالإصلاح في ضوء هبوب رياح الربيع العربي، فخضع الدستور لمراجعة شاملة هدفت إلى تكريس الحقوق والحريات الفردية، وإنشاء هيئات دستورية لها صلة مباشرة بصيانتها وتكريسها، تمثلت بالمحكمة الدستورية والهيئة المستقلة للانتخاب.
وتوالت التعديلات الدستورية في عامي 2014 و2016، والتي جاءت محدودة الأثر بالمقارنة مع سابقاتها، فجرى حظر ازدواج جنسية كل من الوزراء وأعضاء مجلسي الأعيان والنواب قبل أن يتم إلغاؤه فيما بعد، كما تقرر توسيع مهام الهيئة المستقلة للانتخاب لتشمل إجراء الانتخابات النيابية والبلدية كاختصاص أصيل.
إن الدساتير الوطنية تمتاز بأنها وثائق حية تصدر لكي تنظم علاقة الفرد بدولته. وهذه العلاقة تتسم بأنها متجددة ومتطورة تحكمها الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية المحلية منها والخارجية، مما يبرر مراجعة نصوص الدستور وإعادة النظر فيها بشكل دوري مستمر.
إلا أنه وعلى الرغم من التعديلات التي خضع لها الدستور الأردني للمراجعة والتحديث، فهو لا يزال محافظا على صفتي العراقة والقِدم الملازمتين له، فهو اليوم يعد ثاني أقدم دستور في الوطن العربي بعد الدستور اللبناني لسنة 1926. فالربيع العربي وإن كان قد أجبر العديد من الدول العربية على وقف العمل بدساتيرها الوطنية وإصدار دساتير جديدة، إلا أن الدستور الأردني قد أثبت علو شأنه وقدرته على التكيّف مع الوقائع والمستجدات. فهو اليوم يمضي قدما في الاستجابة لعملية التحديث، ليكون الركيزة التشريعية التي تستند إليه باقي السلطات في الدولة في العمل والبناء.
الرأي