حضور المكان في رواية جبل التاج لمصطفى القرنه
علي القيسي
06-01-2025 09:01 PM
رواية جبل التاج رواية جديدة كتبها الروائي مصطفى القرنة وصدرت حديثا في عمان ، وهي رواية مختلفة عن رواياته السابقة الكثيرة والمتميزة بالمكان والجغرافيا ، فالمكان متوهج في هذه الرواية ،ويكاد أن يأخذ نصيب الأسد في حضوره الطاغي اللافت
فالعتبة العنوان جبل التاج دال ، حيث يقفز فورا إلى الذهن خاصة عند أهل عمان والأردن عامة ، فعمان العاصمة الموصوفة بجبالها السبعة ، تتميز بجبالها الشامخة ومنها جبل التاج الذي له خاصية شخصية عند الكاتب والروائي القرنة ، إذ إنه عاش فيه طفولته المبكرة وصباه وهو يدرك مدى محبته لهذا المكان وذكرياته مع أترابه وأصحابه وجيرانه. وحظي بهذه الرواية التي تؤرخ المكان والحياة في مراحل مختلفة عبر الزمن الماضي والذي يزيد عن قرن ونيف ، وهو الزمن الروائي ،الذي بدأ من روسيا وهجرة الشراكسة ونكبتهم التاريخية في نهاية القرن التاسع عشر ، والمعاناة التي واجهتهم في هذه الرحلة القسرية عبر جبال وتضاريس ووديان سحيقة وثلوج ووصولهم الى الموانئ التركية
وكان الخوف والجوع والمرض والبرد والثلج يفتك بالناس كبيرهم وصغيرهم فمات منهم الكثير في هجرة العذاب والموت فرارا من بطش الحرب التي حلت في بلادهم واضطروا الى ترك بيوتهم وقراهم والفرار من موت الى موت آخر ، بسبب الهجوم الروسي عليهم من هنا تبدأ الرواية والحكاية في ذاكرة المسن في اسطنبول الذي كان يسترجع الماضي بتيار الوعي ويستعرض الأيام القاسية والذكريات المؤلمة
ثم تتمحور الحكاية الى الروائي العليم ، الذي كان يحلم بكتابة رواية وهو في المدرسة وكان شغوفا في كتابة رواية عن النادي الانجليزي الذي تم تحويله بعد مدة طويلة الى مدرسة كان الرواي الصغير الحالم فيها طالبا من هنا مسك الخيط واهتدى الى بداية الطريق مصطفى القرنة الذي اجتهد وبحث وتحرك لجمع أطراف الحكاية من هنا وهناك باحثا عن الحقيقة والمعلومة التاريخية والاجتماعية والسياسية والجغرافية والثقافية ، ليشكل روايته التي ولدت من رحم المعاناة ،
فوظف الخيال إيما توظيف ، خيال أسقطه على الواقع الروائي ليخرج فناً روائيا مكتملا ، واشتغل على الشخوص بحرفية وفنية رائعة ، ووظف المكان في خدمة السرد ، فالمكان هو كل الرواية وحضوره كان طاغيا ، عمان ، وجبل التاج، وجبل الخريطة سابقا ، والنادي ، وقاع المدينة ، والبيادر ، والقلعة والمسجد الأموي ، وشارع بسمان، والشوارع المتعرجة الترابية والمغاور في ذاك الحي الذي كان يقطنه والمجتمع الشركسي الذي سكن عمان القرية أنذاك وهناك الامكنة الكثيرة التي تعج بها الرواية
مثل وداي سرور ، والجسور العشرة ، وادي الرمم ،،هذه الأماكن وغيرها أثرت السرد الروائي
وجعلته حياً نابضا بالحياة ، وجعلت الشخوص يتحركون في هذه الجغرافيا الواسعة بواقعية ومنطقية وثبات ، فثمة كبير الجبل ، ومكانته الوقورة ، وسكنه في أعلى الجبل ،ودوره في البئية الاجتماعية ، والحاجة مطيعة ، وأبناء المسن سلطان وفارس ، ودورهما البطولي في الرواية ، السرد يسير بخطوات منتظمة وواثقة ، منسجما مع الأحداث والأماكن والشخوص
سلطان يتقن دوره وفارس يدرك عملة ،،حياة تضج بالنشاط والعمل والكفاح ،وبيئة منسجمة متواضعة متماسكة ، وثمة العثمانيون ومعسكراتهم وعملهم في بناء الجسور والأنفاق ومساعدة أهل المناطق بتوظيف أبنائهم في المشاريع والسكك للقطارات والمحطات ، وثمة الانجليز وناديهم الشهير في جبل الخريطة وتعاملهم مع المجتمع المحلي وحياتهم الخاصة الأجنبية في عاداتهم وتقاليدهم الاجنبية التي كانت مكان تندر عند أهل المنطقة المحيطة بالنادي ،
ويطوف بنا الراوي القرنة في فضاءات المكان ، فالحياة في المغارة والعائلة ووجود رؤوس الحيوانات المعلقة في المغر القديمة مثل الغزلان والضباع والثعالب التي يتم اصطيادها وتعليق رؤوسها ، ثمة المناسبات الاجتماعية الزواج والمواليد الجدد ينال ابن فارس زوجته (برت) الشركسية الفتاة البيضاء ذات العيون الجميلة الخضراء ، والاحتفالات بالأعياد ، والأغاني والمواويل للرعاة والحصادين ومواسم الحصاد ، سرد سلس ومشوق لهذه الكرنفالات الشعبية ، وحضور مبهج للمسجد والمصلين والإمام والمؤذن ، وطقوس الجمعة يوم العطلة ، بعد عناء العمل الشاق ،ويمضي بنا الراوي القرنة الى أحداث كبيرة كالزلزال الذي هز عمان في بداية القرن العشرين والرعب الذي أصاب الناس والبيوت التي دمرت والاشخاص الذين قضوا
وهناك في رواية جبل التاج ، التكافل الاجتماعي بين الناس ، وكانهم أسرة واحدة بالرغم من تنوع الديانات والأعراق والأجناس ، فهناك الاردني والشركسي والهندي والبدوي والشامي وغيرهم ،
ومن الناحية الفنية للرواية فاللغة سهلة ورشيقة والجمل والعبارات مريحة تعكس المعنى بدون تعقيد ، وثمة الحس الأدبي لدى الراوي مرهف ومعبر بشفافية عن المعاني والمواقف الانسانية ويعكس الحالة النفسية عند الشخوص ، كيف يفكرون ، ويتأثرون ، ويعانون ويفرحون ، وكانه في دواخلهم ، مما يعكس منولوجية عامة ،
وهناك الضمائر الأناء والغائب والمتكلم واعتقد أن هذه الضمائر تأتي بشكل طبيعي وعفوي نتيجة الأحداث ودور الشخوص وعملية السرد
فالكاتب لايستطيع عمل دراسة مسبقة للاسلوب الذي سينتهجه في المحتوى ، فهذا يأتي بالطبع والتشخيص والتجنيس ، وهناك الأفعال هناك الماضي وهو كثير الاستعمال في الأعمال الأدبية السردية ،وكذلك المضارع يستعمل عند تطبيق الفكرة ومع سياق السرد وحركة الشخوص وتصرفاتهم في الزمان والمكان ،فنجد أن التوازن في رواية جبل التاج في هذه العناصر معتدل تفرضه الوقائع والأحداث القديمة والمستجدة وكذلك وجدان الراوي وجديته في عمل أدبي ناجح
وفي الختام الرواية جميلة وواثقة وتؤرشف للمستقبل وتعكس اهتمام مصطفى القرنة بالمكان والتاريخ والتراث ،فهي مرجع للتوثيق والبحث والدراسات
راجيا الصديق مصطفى القرنة دوام التوفيق والنجاح الدائم.