ادخلت قسم الحضانة وانا في عمر الثالثة من العمر الى دار الراهبات الفرنسيسكان مرسلات مريم، والتي هي مدرسة كاثوليكية بالإسكندرية تحمل اسم جيرار انشئت عام ١٨٩٠ ميلادية عمرها ١٣٥ سنة وتبلغ مساحتها ٤٠٠٠ متر مربع، اي أربع دونمات وهو ما يوازي الفدان في التعريف المصري للأراض ومساحتها تقريبا، وكانت في الشارع خلف الفيلا التي نقطنها، "كانت الفيلا لأغنى اليهود ثراء في مصر ‘بوليتي" تاجر الألماس وصاحب شركات الملاحة ودور السينما" تقع في الحي الدبلوماسي الراقي في سابا باشا وهي منطقة الصفوة والقنصليات والبعثات الدبلوماسية، حيث كانت القنصلية السويسرية والروسية ومنزل القنصل الليبي والفرنسي والبلجيكي والروسي والسويسري وكبار الاطباء ومنهم الطبيب الخاص للرئيس جمال عبد الناصر، والوزير المفوض إبراهيم محمود القنصل المصري في القدس في الأربعينيات وسفير مصر في يوغسلافيا، وتمام الدين باشا رضا من أقرباء الملك فاروق، وأحمد الشلقاني وابنته الفنانة شريهان خورشيد رائدة الفن الاستعراضي وأيقونة فوازير رمضان في الثمانينيات والامير محمد فاروق شريف، وقد علمت مؤخرا ان الانبا إبراهيم اسحق بطريرك الإسكندرية للأقباط الكاثوليك قد نقل ملكية مدرسة جيرار من دار راهبات الفرنسيسكان، مرسلات مريم، الي الإبراشية البطريركية.
لقد كانت أيام جميلة يصطحبني ذهابا وايابا الحارس بواب الفيلا القادم من الصعيد "عم يونس" رحمه الله. والذي كان يأتي لنا في كل عام
يذهب بإجازته السنوية خلال الكريسمس ورأس السنة ومعه زوجته "زينب" الي الأقصر بالقطار محملا بالكركديه المشروب الأحمر السائد والأشهر في جنوب مصر والذي يعد مضادا طبيعيا لالتهابات وأمراض البرد والانفلونزا والعظام والسرطان والفول السوداني.
كانت جيرار بدايات فهمي ان الدين هو "المحبة" واطلاعي المبكر على المسيحية رغم صغر سني وقد تعلقت كثيرا بتمثال السيدة "مريم" العذراء والذي كان في مدخل بهو المدرسة، وربما كان هو سبب قبولي رغم صغر سني، عندما شاهدتني الراهبة واقفا امام التمثال متأملا ومتفائلا متعلقا بابنها الرضيع التي كانت تحمله بيدها، سيدنا المسيح عليه السلام
وكم اذكر الهدايا وشجرة عيد الميلاد الكبيرة في جيرار والزينة على الجدران والحلويات وبهجة الاطفال الذي انا منهم واعود الى الفيلا محملا بأكياس الحلوى والشوكولاتة، كما هي الترانيم وضوء الشموع الذي تقيمه المدرسة. وكانت شجرة عيد الميلاد دوما في منزلنا واستمرّت الي يومنا هذا عادة لا تفارقنا ترمز الى الحيوية والحياة المتجددة نضع عليها نجمة بيت لحم.
بعدها ادخلت حضانة كلية فيكتوريا واستمريت بها حتى انهيت التوجيهي (الثانوية العامة)، وكنت الطالب الوحيد المسلم والذي احرص على حضور دروس المسيحية كل عام دراسي والتي تعطيها المعلمة ماري، وهي سيدة مسيحية متزوجة من أحد خريجين كلية فيكتوريا وكانت تدرس الديانة المسيحية والديانة اليهودية واللغة الفرنسية، وزوجها هو الأستاذ تشارلز حمدي نائب المدير ورئيس قسم العلوم بالمدرسة، وبالمناسبة هو مهندس حاصل على ماجستير الهندسة من جامعة مانشستر وكان يحظى بإعجاب الطلاب جميعا، وحمل اسم عائلة "حمدي" نسبة الى الرجل المسلم الذي تبناه بعد وفاى والديه
كانت احتفالات الكريسمس ورأس السنة الميلادية تقام كل عام بحضور الطلاب وأسرهم من كافة الديانات في احتفالية تشاركية بفرحة عيد الميلاد المليئة بالبركات والأمل والسعادة وبوجود شجرة عيد ميلاد كبرى تمثل سلامة الحياة في الحاضر والمستقبل كما قيل لنا احتفالا بالليلة المقدسة، وكانت الشخصية الأسطورية البابا نويل متواجدا محملا بالهدايا التي كانت تسعد الجميع مسلمين ومسيحيين، لم تنس كلية فيكتوريا ان تضع جراب الميلاد لنكتب رسائلنا وطلباتنا، كانت البهجة للجميع موحدة للأطراف والديانات، في قاعة الطعام بكلية فيكتوريا والتي تتسع لثلاثة الاف شخص ومجهزة بكل ما تحتاجه اي قاعة احتفالات وكانت الاكبر حينها مساحة وتجهيزا من اي فنادق خاصة.
كانت عمتي، يسرى طوقان مؤسسة الهلال الأحمر والاتحاد النسائي في الاردن تعيش معنا وفي كل مناسبة كانت تأتي بعدد من الصلبان الذهبية الصغيرة مع سلسال رفيع ذهبي من مدينة بيت لحم ومن كنيسة المهد، كل صليب موضوع في بيضة بيضاء بلاستيكية، وهو ما اشتهرت به المدينة الفلسطينية وتهديهم الي المعلمات المسيحيات ممن يدرسونا في كلية فيكتوريا. ومع مرور الوقت أصبحت الصلبان من بيت لحم منتشرة في المدرسة واغلب المعلمات المسيحيات كانوا يرغبن في الحصول عليه وكانت عمتي باستمرار مع بداية كل عام تقوم بذلك حتى عرفت بانني "الطالب الذي يهدي الصليب وينشره في المدرسة".
كنا ننتظر صباح تلك الأعياد لنتبادل الهدايا ونضيء شمعة شجرة الميلاد، ونأكل التفاح الأحمر المغلف بشمع العسل، وفي كل عام يتزايد المحتفلون بالعام الجديد.
لأول مرة خلال خمس وستون عاما لا نضع شجرة ميلاد في بيتنا، وهو ما سبب لنا الما واكتئابا وحزنا عميقا، والذي هو تقليد لم يفارقنا في اي من السنوات التي عشنها، بسبب مآساة غزة وقصف جنوب لبنان واستهداف لبنان واستمرار العدوان على الدول العربية واحتلال ربع سورية وقصف آلياتها العسكرية، كلنا حزن وسط تحديات الحرب والإبادة، غابت عنا مظاهر الزينة وشجرة الميلاد واكتفينا بشجرة زيتون بلاستيكية من موقع "أمازون" وضعنا عليها بعض الإضاءة والشموع فقط وبقينا نصلي وندعو لأجل وقف الحرب والإبادة المستمرة ونحن نتابع أكوام الركام والضحايا والأبرياء من الاطفال القتلى والقصف الجوي والصمت العربي المخزي، صلاة لا تفتقد للأمل متسائلين من سيبقى حيا ليحتفل باعياد الميلاد المجيدة العام القادم من المسيحيين و المسلميين حد سواء ومن سيضئ شمعه عيد الميلاد في البلاد المحررة بإذن الله . كل البلاد لانه لم يعد بلد الا محتل او تابع للاحتلال بلا استثناء!!!!!!!!
كل عام و أعياد الميلاد المجيدة بخير و سلام
aftoukan@hotmail.com