الأنظار كلها على سورية الآن. إذا صلح هذا البلد صلح المشرق العربي كله. لذا لا مجال لاحتمالية الإخفاق، وهذا أمر منوط بالسوريين بالدرجة الأولى، وبالعالم العربي ثانياً. إنها لحظة مشوبة بالتوتر، مثل تلك التي تسبق الولادات الكبرى في التاريخ.
المثقفون السوريون، بالمعنى الغرامشي، في مروحتهم الواسعة التي تشمل الكتاب، والأدباء والنشطاء، والحزبيين، والنقابيين، ورواد وسائل التواصل الاجتماعي، مدعوون لليقظة المطلقة في هذه المرحلة، وإذ أخص السوريين بهذا الرجاء، فلأنني في الوقت ذاته أدعو نفسي للمشاركة في استدامة اليقظة، والتنبيه إلى تعقيدات القنطرة الراهنة.
وتقف خلف هذا الحذر والتبيه محاولات لرسم تصور ما للمجتمع السوري الذي تريده هيئة تحرير الشام والقوى المؤتلفة معها. ويخشى المرء أن يتم فرض إطار ما للدولة السورية يتآخى مع الأيديولوجيا التي طبقتها الهيئة أثناء حكمها إدلب. كان ذلك حكماً إسلامياً بروح طالبانية، ولو أنه أخف وطأة مما جرى ويجري في أفغانستان. لكنّ مصدر التشريع ظل في إطار اللون المتشدد الواحد. وهذا في ظني مصدر تهديد للاجتماع السوري المتباين الخلفيات والمنابع، والتواق، بطبيعة بنيته النفسية والتاريخية، إلى الدولة المدنية أكثر من الدولة الدينية أو الدولة المذهبية أو الدولة الطائفية، أو دولة الإثنيات والمحاصصة.
شذرات من هنا، وتصريحات من هناك، وإجراء يتصل بالمناهج في هذه البرهة الضيقة والسريعة، ومنطوق، رسمي أو شبه رسمي، ما يزال يتحدث عن لباس المرأة الشرعي.. كلها ترخي ظلالاً ثقيلة على النفس، وتدعوها إلى القلق والريبة. أشد ما يخيف في تجارب الحركات الإسلامية هو البراغماتية التكتيكية التي تمهد لمرحلة التمكين، حيث ثمة خطاب "معسول" يمسك العصا من المنتصف، ثم لا يريد أن يشتبك مع أحد أو طرف، ثم يراوغ، ثم يداهن، ثم يتحفظ، ثم يمانع، ثم يحظر، ثم يمنع، ثم يصدر أحكامه، في تصاعد درامي يتعالى ويرتفع بلهاث محموم إلى درجة فرض الأمر الواقع.
هذا شيء مخيف حقاً. وما التوصيفات السابقة ذات الأفعال المتوترة إلا جزء من نثار المشهد. سنقول مع المتريثين إن الوقت ما يزال مبكراً للحكم على التجربة. نعم، ولكن تحت شعار التريث هذا ربما تجري مياه كثيرة تحت الجسر بدأت بتعديل "ضئيل!" في المناهج، بقصد اجتثات ثقافة البعث وتأليه الأسديْن السابقين وتمجيدهما. ولكن ما علاقة ذلك بشطب قصائد غزلية، ونص عن دار الأوبرا؟!
المسؤولون في وزراة التربية والتعليم، المنبثقة عن الحكومة الجديدة، يبررون ما جرى بأنه إجراء مؤقت، ولكنّ المؤقت "الخبيث" الآن، قد يغدو في زمن "التمكين" مستداماً، لهذه وجب الحذر، والقعود "على ركبة ونصف" من أجل مراقبة كل ما يجري، لأن ما لا يُعلن عنه من إجراءات تمكينية أكثر مما يتم الجهر به!
المثقفون السوريون، ومعهم العرب أيضاً، يتعين أن يديروا في هذه الآونة غرفة عمليات لرقابة الأداء العام للقيادة الجديدة، ثم المساهمة الفعالة في وضع الحلول الخلاقة التي لا تكتفي بالمعارضة من أجل المعارضة. دعاة الإسلام السياسي وأنصاره بارعون وموحدون في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي، ولا أريد أن أستحضر مقولات عن "الجهاد الإلكتروني" أو "الذباب الإلكتروني"، بيد أنني أرجو أن تتحد القوى التقدمية في سورية من أجل خلق رافعة مؤثرة وحاشدة، من أجل بلورة تصورات مدنية راقية لشكل الدولة الجديد، وعدم إضاعة الوقت في المماحكات البينية.
صورة سورية التي نحب تتشكل بإعلاء وتنشيط المقاومة المدنية اليقظة والمتخصصة في المجالات كافة. تماماً كما يشبه حكومات الظل في الديمقراطيات العريقة. المعترضون على الإجراءات المؤقتة على المناهج، صدر جلهم عن معارضة مزاجية سريعة، وعن إدانة متوترة، وقد يكون ذلك متوقعاً في بعض منصات التواصل الاجتماعي، لكنني لم أر (وهذا ربما تقصير مني) مَن قرأ في تعديلات المناهج بطريقة متخصصة وعلمية، فأبان عن المثالب، وثمّن الإيجابيات.
من دون مقاومة منهجية، سنفوت أهم فرصة في تاريخ سورية الحديث. لا مبالغة في الأمر، لأن اللاعبين الآن من العيار الثقيل، ولا أتحدث هنا عن الكيانات الدولية والإقليمية وحسب، بل عن التيارات والجماعات والأطراف "الأهلية" التي تتطلع إلى الغلبة في السباق المحموم من أجل بناء صورة سورية التي يتوخاها كل طرف، قبل أن نصل إلى مرحلة "التمكين" النهائية التي تحتكم إلى صندوق الانتخابات التي يجري من الآن هندسته، (على مدى أربع سنوات مقبلة)، كما صرح قائد إدارة العملية الانتقالية أحمد الشرع.
المنتصر في هذه "المعركة" هو اللاعب الذكي الذي يعمل على الأرض وفي الفضاء، ويستثمر في وسائل الإعلام، وبكل المنصات المتوفرة في حقول السوشيال ميديا. المثقفون متهمون بأنهم استعلائيون وسكَنة أبراج شاهقة. التصور هذا يتعين أن يتبدل الآن، وأن تجتمع الرؤى وتصوّب إلى هدف واحد لا بديل عنه: بناء دولة مدنية سورية، غير منقوصة الجغرافيا، لكل أبنائها، من دون أية إرادة قهرية، مهما كان منشؤها مقدساً. الحرية هي لون الإنسان، ولا تزيّد في قول بعد نداء الحرية، وتحديداً في سورية التي ملأ رئتيها الطغيانُ بالغبار والبارود والعتمة.
المؤتمر الوطني السوري قادم، وهو مؤشر حقيقي لطبيعة الوجهة التي يتم إعداد سورية للسير صوبها. ومن السهل أن تأتلف التيارات العقائدية، وتتناسى، مؤقتاً، خلافاتها، عندما "تعتقد" أنها تواجه "عدواً" يؤمن بالقيم المدنية والعلمانية، وحق المرأة في المشاركة الفعالة في الحياة العامة. وعند "حقوق المرأة" تُختبر النوايا، فالنظر إلى وضع المرأة يكشف لنا طبيعة التصورات والمخططات والنوازع.
هدمت طالبان تماثيل بوذا (ثم حولت أنقاضها إلى مزارات سياحية لزيادة الدخل القومي!)، وحرّمت الموسيقى (ليس لديهم دار أوبرا!)، ومنعت النساء من دخول الحدائق والنوادي الرياضية، وشكلت وزارة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تفتخر بأنها دمرت أكثر 21 ألف آلة موسيقية خلال عام واحد!
ماذا سيفعل المثقفون في هذه الأجواء العاصفة الملبدة بالغموض؟ إنْ هم غضوا الطرف عن إزالة قصائد الغزل في المناهج، فكيف سيتعاملون مع ما هو مخبأ في العباءات، وتحت العمائم، وفي تأويل النصوص؟